أي رئيس أو وزير أو قائد أمني أو عسكري معين برضا قاسم سليماني ورعايته لا يملك من أمره شيئا، وأنْ ليس في مقدوره أن يغادر عباءة الولي الفقيه، حتى لو أراد ذلك.
 

لم يكن أحدٌ في المنطقة الخضراء ببغداد ينتظر وزيرا بريطانيا ليقول لعراقيي ولاية الفقيه، وبالقلم العريض، إنهم سيدفعون الثمن الباهظ إذا هم لم يقفزوا من المركب الإيراني الذاهب إلى نار جهنم، عاجلا وقبل فوات الأوان.

فالوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، أليستر بيرت، تنبأ وهو في سفارة بلاده في بغداد بما ينتظر إيران من معارك، قائلا “إذا لم يسارع العراقيون إلى النأي بأنفسهم وبدولتهم عن السير خلف إيران والاعتماد عليها اقتصاديا وسياسيا، فسيجدون أنفسهم متورطين في معركة كبرى لا ذنب لمواطنيهم فيها”.

بعبارة أوضح. إن الوزير البريطاني يتوقع مواجهة عسكرية كبرى بين إيران والولايات المتحدة، إذا لم يحسب الإيرانيون أمورهم بصورة صحيحة.

وتأتي هذه البالونة الاختبارية البريطانية الجريئة والصريحة في تزامن ليس غريبا ولا عجيبا مع تهديدات جديدة إسرائيلية باستهداف فصائل مسلحة تابعة لإيران في العراق، ومع أنباء استدعاء حكومة الرئيس الأميركي دونالد ترامب طائرات وحاملة طائرات نووية للعمل في مهمة خاصة في المنطقة.

ولكن الذي يعيش في الولايات المتحدة وتخدمه الصدف بأن يستمع إلى مقربين جدا من الإدارة الأميركية يكتشف أنها ليست في وارد الدخول في حربِ مواجهةٍ تقليدية، أو حربِ شوارع في العراق أو سوريا، خلافا لجميع توقعات الحالمين أصحاب النوايا الحسنة من العراقيين بقرب خلاصهم من الكابوس الإيراني بغزو أميركي عسكري جديد يملأ الأرض عدلا، بعد أن ملئت جورا، عما قريب. صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية، منذ أن فاز دونالد ترامب بالرئاسة، تُكثر من تهديداتها، وتُشدد عقوباتها، وتُضاعف أعداد قواتها العسكرية ومعداتها ومواقعها في المنطقة، وتُسيّر “همَراتِها” المدججة بالسلاح، والمحملة بجنودها المتأهبين للقتال، في مدن عراقية معينة، في استعراض متعمد للقوة، بالتزامن مع تحرشات حلفائها الإسرائيليين بالمواقع الإيرانية في سوريا، وإعلانهم عن احتمال قيامهم بقصف مراكز عسكرية تابعة لميليشيات موالية لإيران في العراق.

وليس لذلك من تفسير سوى أنه استفزاز مقصودٌ لنظام الولي الفقيه لحمله، أو لحمل أحدٍ من أتباعه العراقيين على ارتكاب حماقة تحرش بأحد معسكراتها في العراق، أو بجنودها وضباطها، وذلك للحصول على مبرر مشروع، دفاعا عن النفس، يجيز لها توجيه ضربات قاصمة للظهر الإيراني، لا في العراق ولا في سوريا ولا غيرهما، بل في إيران ذاتها وفي الخليج العربي تستهدف مواقع حيوية كمرابض الطائرات أو مخابئ الصواريخ أو مراكز الحرس الثوري والمخابرات، أو مجمعات النفط الرئيسية، أو كل ذلك مجتمعا في وقت واحد.

أما إذا تذاكى الإيرانيون وفهموا الرسالة وقدّروا موازين قواهم وقوى الولايات المتحدة، واكتفوا بالتهديد والوعيد فإنهم بذلك سيُلحقون ضررا قاتلا بهيبتهم ونفوذهم في العراق، بشكل خاص، وقد يشجعون المكتوين بنار الظلم العنصري الطائفي الإيراني من العرب السنة والأكراد على التمرد، وعلى الالتفاف حول القوات الأميركية والاحتماء بها، واستعادة القدرة على تحدي أحزاب إيران وميليشياتها والتحرر من سلطانها.

وإذا لم يتراجع الرئيس الأميركي عن سياسة المجابهة مع النظام الإيراني، فإن الملالي سيكونون في الحالين، حال الشجاعة أو حال الجبن، من الخاسرين. شيء آخر. مؤكد أن الوزير البريطاني لم يكن يتوقع أن يتعظ حكام المنطقة الخضراء بنصيحته ويتخلوا عن ولائهم لإيران، لا اليوم ولا في غد. وأغلب الظن أن رسالته الملغومة مرسلة إلى طهران، دون غيرها. إياكِ أعني واسمعي يا جارة.

فهو يعلم جيدا، وهو أعرف العارفين، بأن أي رئيس أو وزير أو قائد أمني أو عسكري معين برضا قاسم سليماني ورعايته لا يملك من أمره شيئا، وأنْ ليس في مقدوره أن يغادر عباءة الولي الفقيه، حتى لو أراد ذلك. والأسباب كثيرة، أولها أن جميعَهم، وهم في منازلهم ومكاتبهم، محاصرون بمفارز حماية، إيرانية أو عراقية موالية لإيران، جَبرا على الاحتماء بها، أو اختيارا، وليس أسهل على تلك المفارز من أن تجتث، وعلى الفور، أيا من المتخاذلين الناكرين للجميل.

والعقاب الذي أذيقَه رئيسُ الوزراء السابق، حيدر العبادي، عبرةٌ لمن يعتبر، رغم أن جريمته لم ترقَ إلى مصافي الخيانة العظمى التي يطالب بها الوزير البريطاني. فهو لم يفعل شيئا، غير تصريح كلامي عابر، ربما من باب التقية، بأنه لا يؤيد العقوبات الأميركية، ولكنه مضطر لتنفيذ بعض أحكامها. وثانيها أن كثيرين من هؤلاء المسؤولين سَفَّروا أسَرهم، أو أُجبروا على تسفيرها للإقامة الآمنة في إيران أو لبنان أو دمشق، وهي، بالتالي، رهائن نافعة لإيران عندما تحكم الضرورة.

وثالثها أن كبيرَهم وصغيرهم لا يملك في العراق شروى نقير، فقد أُمر بتحويل ملايينه أو ملياراته إلى طهران، أو بجعلها فنادق وأبراج وشركات ومصانع في إيران ولبنان وسوريا، تحت رعاية الحرس الثوري وحمايته، وهم بالتالي عبيدٌ لحاجتهم إلى رضا النظام خوفا على تلك الثروات من الانتقام.

وأخيرا، يقول المتحدث باسم العشائر العربية في المناطق المتنازع عليها، “إن إيران وفصائل تابعة لها، تقوم بعمليات تدريب وتجهيز عبوات ناسفة في محافظات صلاح الدين وديالى، ومنها صناعة عبوات ناسفة، وتفخيخ سيارات، واستخدام الألغام الثابتة لغرض تفجيرها ضد أرتال القوات الأميركية المتواجدة في العراق أو التي ستنتقل إليه من سوريا”.

وأضاف قائلا إن “أكثر من 30 ميليشيا، أبرزها ميليشيات حزب الله وسرايا الخراساني المرتبطة مباشرة بالمرشد الأعلى، وميليشيات جند الإمام، والإمام علي، هي أكثر الفصائل معارَضةً لوجود القوات الأميركية، وتهدد بضربها”.

وقال مواطنون في مناطق قريبة من القواعد الأميركية إن الميليشيات هددتهم بشكل علني، قائلة “من يتعاون مع الأميركيين سيُعرض نفسه للتصفية الجسدية”. والسؤال هنا هل هم جادّون فعلا في مقاتلة القوات الأميركية، أم هو استعراضُ عضلات مع وقف التنفيذ؟

وبين هذا وذاك يظل حكام المنطقة الخضراء محشورين بين سندان النظام الإيراني، وبين المطارق الأميركية والبريطانية والفرنسية والألمانية وعنجهية بنيامين نتنياهو، فماذا هم فاعلون؟