يوماً بعد يوم، تظهر ملامح الانقلاب السياسي الآتي إلى الشرق الأوسط من بوابة سوريا. والإطلالة الأخيرة للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أكدت ذلك. فللمرة الأولى، بَدا توقيت الإطلالة أشدّ أهمية من مضمونها، لأنّ مقابلة الـ3 ساعات، بعد صمت 3 أشهر، لم تحمل جديداً بارزاً، لا في المسائل الداخلية ولا المسائل الإقليمية. وبدا واضحاً أنّ «الغَيْبة» التي كثرت الشائعات حولها لم تكن سوى فترة «عصف فكري» لاتخاذ القرار المناسب: كيف سيواجه «حزب الله» تحديات المرحلة المقبلة؟
 

ما كان يتوقعه المحلّلون من تباعدٍ إيراني - روسي في سوريا بدأ يظهر إلى العلن. ومع كل غارة إسرائيلية تُشَنُّ على مواقع وتجمعات ومستودعات لإيران و»حزب الله» في سوريا، ينكشف صمت روسي يحمل في طياته موافقة ضمنية.

فالروس يضعون أيديهم على منظومة صواريخ «إس 300» التي يمكنها أن تتكفّل بإحباط أي ضربة إسرائيلية، لأنها قادرة على كشفها باكراً والتصدّي لها وتعطيلها. 
الواضح، وفق المحللين، أنّ موسكو تلتزم تفاهماً مشتركاً مع إسرائيل والولايات المتحدة، وتحظى بدعم تركيا والقوى العربية الأساسية. ويقضي التفاهم بمنع

إيران من تشكيل منطقة نفوذ لها في سوريا، وإبعادها فوراً إلى مسافة تفوق الـ100 كيلومتر عن الحدود مع إسرائيل في الجولان.

في عبارة أخرى، إنّ التغطية التي يحظى بها الروس في سوريا، مقابل الحفاظ على حليفهم نظام الأسد إلى ما بعد إنجاز الحلّ السياسي، مرهونة بمنع التمدُّد الإيراني. أي: ليس مسموحاً أن ينفِّذ الإيرانيون في سوريا نموذج «حزب الله» في لبنان، بخلق ثنائية الدولة والفصيل المسلّح.

ولذلك، تواترت المعلومات أخيراً عن مفاوضات بين روسيا وإيران حول مستقبل وجود «فيلق القدس» في سوريا. وكان دور الأسد في هذه المسألة أقرب إلى الحياد. فهو يحتاج إلى دعم الطرفين معاً: الروس يقدّمون له ضمانا دوليا وإقليميا وعسكريا وأمنيا لا يمكن المسّ به لاستمراره، كما أنّ الإيرانيين ما زالوا يضطلعون بدور فاعل في المعارك البرّية.

وربما كان الأسد مرتاحاً إلى أنّ الروس يمسكون بقرار استخدام صواريخ «إس 300» لأنّ ذلك يحرّره من مسؤولية المواجهة الاضطرارية مع إسرائيل، وردّ الجميل لإيران بالدفاع عنها. وهذه المواجهة يمكن أن تكون مدمِّرة له إذا قرَّر دخولها.

في السابق، كان الكلام على خلاف إيراني - روسي في سوريا مجرد تحليلات. إلّا أنّ إيران ذهبت أبعد من ذلك، قبل أيام، إذ كانت واضحة في اتهام موسكو بالتنسيق مع إسرائيل في مسألة الضربات على سوريا. كما أنها غمزت من قناة الأسد للمرّة الأولى. 

فقد تحدّث رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، عن «تنسيق» بين الهجمات الإسرائيلية والدفاعات الروسية التي بقيت «مستقرة». كذلك شكَّك في الإحصاءات التي أعلنتها «مصادر سورية» عن مقتل 12 إيرانياً في الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.

ولم يكن الردّ الروسي أقلّ قساوة ووضوحاً، إذ قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف: «روسيا ليست حليفة لإيران في ما يتعلق بوجودها في سوريا، وأمن إسرائيل هو أحد أهم أولوياتنا. ونحن لا نستخف بأهمية التدابير التي من شأنها أن توفّر ضماناً أمنياً قوياً لدولة إسرائيل».

وأضاف: «الإسرائيليون يعرفون ذلك، والولايات المتحدة وكل الأطراف الأخرى، بمَن فيهم الإيرانيون والأتراك والحكومة في دمشق. ومن غير الصحيح تصنيف روسيا وإيران كحليفتين، وهما «تعاونتا فقط» في سوريا. والإيرانيون كانوا مفيدين جداً عندما عقدنا مؤتمر سوتشي، لكننا لا نتشارَك النظرة نفسها في كل ما يحدث».

ومعلوم أنّ موسكو هي التي أقنعت إيران بالانسحاب إلى مسافة 100 كيلومتر من الحدود في الجولان. وقد جاء ذلك بتدبير روسي - إسرائيلي عقب الزيارة التي قام بها لإسرائيل، في تموز الفائت، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس الأركان فاليري جيراسيموف ولقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان الجيش والأمن.

ويتردّد أن الطرفين تفاهما على التزام قواعد الاتفاق الذي تمّ بينهما في العام 2015، الذي ترافق مع دخول موسكو الحرب السورية مباشرة. كذلك كرّس الطرفان هذا التفاهم عقب سقوط المقاتلة الروسية فوق سوريا، في أيلول الفائت، والذي حمّل الروس مسؤوليته لإسرائيل. 

وفحوى التفاهم هو أنّ لإسرائيل هامشاً في ضرب الأهداف التابعة لإيران و«حزب الله» والتي تعتبرها خطرة عليها، بالتنسيق الكامل مع موسكو، ومن دون المسّ لا بقواتها الموجودة في سوريا ولا بالقوات التابعة لنظام الأسد. ويبدو أنّ هذا التفاهم سيبقى سارياً - لجهة تحييد الأسد- ما دام هو يُحيِّد نفسه.

ويعتقد البعض أنّ الرئيس فلاديمير بوتين أخذ على عاتقه عملية الإخراج المناسبة لخروج إيران من سوريا. ويرى هؤلاء أنّ قرار الإدارة الأميركية بالانسحاب من سوريا مرهون بالصفقة التي يرعاها الروس، والتي تتضمن خروج إيران. فلا يمكن أن يمنح الإسرائيليون والأميركيون هذا الهامش لموسكو في سوريا، من دون ضمان منها بالمساعدة على إخراج إيران من الساحة.

وبالتأكيد، لا يمكن للدول العربية، ولاسيما منها تلك الحليفة للمملكة العربية السعودية، أن تبدأ بالعودة إلى الأسد أو أن تعيده إليها، ما لم تحصل على ضمان روسي بفكّ الارتباط بينه وبين إيران. لكن آخرين يعتقدون أنّ بوتين، الذي يتقن اللعب جيداً، يبالغ في الإيحاء بوجود تباعد بينه وبين إيران في سوريا، لأنّ ذلك قد يشجّع الرئيس دونالد ترامب على الرحيل سريعاً من هناك وإخلاء الساحة للاعب الروسي. 

أيّاً يكن الأمر، فإنّ الاستحقاق يقترب في سوريا: موسكو «ستبيع» حلفاءها في سوريا من أجل أن تقبل بها القوى الدولية والإقليمية راعية للتسويات هناك، وإيران ستعاند كثيراً دفاعاً عن نفوذ كَلّفها كثيراً بالمال والرجال وتراهن عليه بصفته مسألة حياة أو موت. فأين سيقف الأسد في النزاع المنتظر بين الحليفين «اللذين لهما أفضال عليه»؟ وماذا سيفعل «حزب الله»؟

من هنا يمكن أن تبدأ القراءة المناسبة لكل تطورات المرحلة المقبلة في لبنان، وفَهْم الإطلالة الأخيرة للسيّد نصرالله، ورسم التوقعات للأزمة الحكومية وسائر التفاصيل الداخلية المملّة.