دأب الزميل السابق والصديق المستدام سجعان قزي على كتابة مقالات أسبوعية محورها، قلقه على الدولة وعلى الصيغة اللبنانية من خلال تعليقه على الأحداث الراهنة وربطها بالأزمة الأصل التي رافقت إنشاء لبنان الكبير والتي تتلبّس أشكالاً متعددة على مدى مئة عام تقريباً.

الملاحظة الأساس، أنّ سجعان يذهب إلى الموضوع مباشرة بلا تورية أو تضمين، رغم رسوخ قدمه في عالم الأدب والخطابة، كذلك أنه لا يتوجّس من تسمية الأشياء بأسمائها، لأنه في معالجاته لم يعد يمثل الحزب الذي كان ينتتمي إليه، كما لم يعد متقيّداً بعقيدته الصلبة، فهو في هذا الصدد ذو فكر مرن، وانتماء تخطى مُتَّحده الطائفي، كما هي حال كثيرين مثله ومثلي.

وكما في كل أسبوع، تكون هناك مناقشة هاتفية معه، حيث أُبدي إعجابي بملاحظاته الذكية، وأسلوبه المشبع بخفة الروح، وشجاعة المقاربة، وقد كنت كذلك أصارحه بما أختلف به معه من استنتاجات، وذلك في مناخ حواري ودّي تحت سقف الانتماء الوطني.

ولكنني خصّصت هذه السطور لأقول رأيي في مقاله الأخير المنشور في جريدة «الجمهورية» يوم الاثنين 21/1/2019 بعنوان: «نحن في 6 شباط يومي»، إذ يعلّق على التلويح بـ 6 شباط جديد: «نحن نعيش في حظيرته يومياً منذ سنوات لأنّ الدستور رهن التوقيف الاحتياطي» وهو في هذا محقٌّ تماماً، بدليل أنّ أحداً لم يستطع أن يفكّ حتى الآن «كربجة» الدولة ويسهّل تشكيل الحكومة، لأنّ القوى السياسية عطلت المواعيد الدستورية والقواعد الديمقراطية، وحوّلتها إلى كلمات مطّاطة تستعملها في الاتجاهات كلها، وتحمّلها المعاني المتناقضة كلما دعت الحاجة، كأنما القوانين والنصوص خدمٌ وجَوارٍ في بلاط صاحب البندقية، وصاحب السطوة الذي يطلق على نفسه ألقاب القوة ويتغاضى عمّا يعتري أسسَ الوطن من ضعفٍ متمادٍ....

وهو يصل بعد هذا إلى الاستنتاج الذي أورده حرفياً: «هكذا لبنان: بنوه أيقنوا أنّ الوحدة المركزية انتهت، وأنّ الأزمات السامّة التي تتوالى علينا هي بسبب استهلاك هذه الصيغة رغم انتهاء مدتها».

هذه النتيجة دعتني إلى الاتّصال بالأخ سجعان مشيراً إلى أنّ هذه الصيغة استهلكت كل الذين حاولوا استهلاكها، رغم جبروت القوة، والمحاولات الجائرة والوقحة لتفتيت النسيج اللبناني، مع أنّ الوطن بدا لفترة، أوطاناً متحاربة ومتعادية، ولكنّ صلابة الصيغة صمدت في وجوههم، فانكفأوا بطريقة أو بأخرى وبقيت إرادة الشعب اللبناني متمسِّكةً بالدولة.

ولا يظنن أحدٌ أنني، بهذا، أُسرف في الخطاب الرومانسي، فقد ودّعته منذ زمن، ولكنني وصلت إلى هذه النتيجة من خلال خبرتي السياسية والعملية، فالدولة هي حاجة فردية بالدرجة الأولى، أي أنّ كل فرد يشعر أنّ كيانَه مرتبطٌ بها، وغيابها يعني الحرمان من الهوية وجواز السفر والعمل والسكن والأمن الشخصي؛ ولقد صار هذا الوعي راسخاً في وجدان المواطن اللبناني.

ربما يفرّق سجعان بين صيغة مركزية الدولة والصيغة اللبنانية، ولكنّ ازمتنا الراهنة مردّها فقدان مركزية القرار، فبتنا بلا قرار في الكهرباء، أو الموقف من اللجوء السوري، أو إقرار الموازنة العامة، وإعادة الهيكلة.. كذلك تعددت ولاءاتُ بعض أجهزة الأمن... ومع هذا كله، فقد أثبتت الصيغةُ قدرتَها على استهلاك مَن حاول ويحاول استهلاكها، لأنّ مدة صلاحيّتها لم تنتهِ بعد.