لا يمكن تفسيرُ دعوة مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل الى تفعيل حكومة تصريف الأعمال، إلّا موقفاً أميركياً لا يؤيّد تأليف الحكومة قائم منذ كان تكليف الرئيس سعد الحريري في أيار الماضي وحتى الآن، وهو موقف يُفتَرَض أنّ حلفاء واشنطن يلتزمونه أيضاً، ما يعني أن لا حكومة قريبة خلافاً للتفاؤل السائد الآن.
 

بعيداً من التفاؤل بتأليف الحكومة «خلال أيام وقبل نهاية الأسبوع» على ما وعد الرئيس المكلف سعد الحريري رئيس مجلس النواب نبيه بري خلال لقائهما الأخير، فإنّ ما «زرعه» هيل في أذهان بعض الذين التقاهم خلال زيارته لبنان الأسبوع الماضي، يدلّ الى أنّ الأزمة الحكومية مستمرة، وأن لا ولادة قريبة للحكومة بل تفعيل لحكومة تصريف الأعمال.

وقبل أسابيع فاجأ بري مختلف الاوساط السياسية بدعوته المعنيين الى عقد جلسة لمجلس وزراء حكومة تصريف الأعمال لدرس مشروع قانون الموازنة العامة للدولة لسنة 2019 وإقراره وإحالته الى مجلس النواب، حتى لا تتمّ العودة الى الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية الذي اعتمد طول السنوات التي لم تُقرّ فيها الموازنات حتى العام الماضي الذي كانت للدولة فيه موازنة ينتهي مفعولُها نهاية الشهر الحالي.

وقد ارتكز بري في دعوته الى سابقة حصلت عام 1969 أيام إحدى حكومات الرئيس الراحل رشيد كرامي، حيث اجتمعت حكومتُه التي كانت تصرّف الأعمال وأقرّت مشروع الموازنة وسيّرت شؤون الدولة المالية.

بالتأكيد قرأ كثيرون اقتراحَ بري على أنّ خلفيّته ناجمة من اقتناع لديه أنّ تأليفَ الحكومة ما يزال بعيداً، وأنّ الافضل أن يتمّ إقرار موازنة سنة 2019 حتى لا تعود البلاد الى دوامة فقدان الموازنات الذي ساد من 2005 وحتى 2017، حيث كانت الدولة تصرف طوال هذه السنين على القاعدة الإثني عشرية.

وعندما جاء هيل الى بيروت، وخرج من لقائه في «بيت الوسط» ليعارض تأليفَ حكومة حالياً خوفاً من أن تأتي لمصلحة «حزب الله»، ويدعو الى تفعيل الحكومة الحالية، فسّر كثيرون كلامه على أنّ الولايات المتحدة الاميركية لا تحبّذ تأليفَ حكومة في هذه المرحلة، وربما هي لم تحبّذ التأليف منذ التكليف في أيار الماضي الى الآن، لاعتقادها أنّ أيّ حكومة ستؤلَّف في ضوء نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في 6 أيار الماضي، وكذلك في ظلّ التطورات الجارية في المنطقة والتحضير الغربي والإقليمي لمواجهة إيران، ستكون «اليد الطولى» فيها لـ«حزب الله» وحلفائه.

على أنّ عدم تأكيد بري شخصياً أنّ الحكومة ستولد خلال أيام، ونسبه هذا التوقع الى الحريري الذي أبلغه اليه شخصياً ومباشرةً في لقائهما أمس الأول، يدلّ الى أنّ رئيس المجلس غيرُ واثق شخصياً من أنّ المعنيين، وعلى رأسهم الحريري، سيؤلفون الحكومة وفق توقعاتهم، خصوصاً في ضوء الموقف الأميركي الواضح الذي عبّر عنه هيل وهو تحبيذ تفعيل حكومة تصريف الأعمال حتى إشعار آخر.

ولذلك يقول سياسيون معنيون بالتأليف إنّ تلويح بري بالمطالبة بعقد جلسة لدرس وإقرار موازنة الدولة سنة 2019 في حال لم تؤلَّف الحكومة في الفترة التي وعده الحريري بها، يدلّ الى أنّ حكومة تصريف الأعمال سيتمّ تفعيلُها تلبيةً لدعوة واشنطن التي عبّر عنها هيل، وذلك من خلال اجتماع مجلس الوزراء قريباً لإقرار الموازنة.

وفي هذه المعطيات يكشف المشهدُ السائد، حسب معنيين بالتأليف، أنّ هناك سباقاً قد بدأ بين أحد خيارين: تفعيل الحكومة المستقيلة، أو تأليف الحكومة الجديدة، وذلك منذ أن قال هيل قولته الداعية الى «التفعيل» الذي هو على وزن «تفضيل». فـ»تفعيل» الحكومة عند واشنطن هو «تفضيل» بقائها لا تغييرها.

ولذا، يعتقد سياسيون متابعون أنّ واشنطن لا تريد تأليفَ حكومة في لبنان حالياً، وربما لا يضيرها بقاء البلد بلا حكومة الى حين التحقق من نتائج المشاريع السياسية والحربية التي تحضّر لتنفيذها في المنطقة في ضوء «صفقة القرن» بين الفلسطينيين والاسرائيليين التي مهّدت لها بالاعتراف بالقدس «عاصمة أبدية» لإسرائيل، وقرارها الأخير الانسحاب من سوريا، وتحضيرها لإقامة حلف دولي لمواجهة إيران خلال اللقاء المقرَّر في وارسو في 14 و15 شباط المقبل، وكذلك في ضوء تصاعد الغارات الجوية والصاروخية الإسرائيلية على الأراضي السورية تحت عنوان استهداف مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني و«حزب الله».

علماً أنّ كل هذه التطورات ربما تكون مقدّمة لحرب قريبة في المنطقة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة وبين إيران وحلفائها من جهة ثانية.

ومن هنا فإن البعض يتخوف من ان يكون تأخير تأليف الحكومة بفعل خارجي أو داخلي، او بالفعلين معاً، في انتظار ما سيؤول اليه مستقبل المنطقة في الاشهر المقبلة سلماً أم حرباً.

والبعض يرجح خيار الحرب ويتوقع أن تكون واسعةً أو محدودة، وقد تنشب قبل نيسان المقبل أو خلاله، لأنه الشهر الذي سيخوض فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتخاباته المبكرة والتي يسعى الى الفوز بأكثرية فيها من شأنها أن تبقيه في السلطة وتصرف الأنظار عن ملفات الفساد التي يحاكم فيها، فيما هو يحاول صرفَ الأنظار عنها في غاراته على غزة تارة، وعلى سوريا تارة أخرى، فضلاً عن الحفر والبحث عن «أنفاق» يزعم أنّ «حزب الله» أقامها على حدود لبنان الجنوبية مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وهذه الحرب يتلاقى فيها نتنياهو في المصلحة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الساعي للتعمية عن الأزمة الداخلية التي يعانيها وتهدّده بالعزل، فضلاً عن سعيه لدعم حملته الانتخابية طامحاً للفوز بولاية رئاسية ثانية، خصوصاً أنّ ولايته الحالية تنتهي في تشرين الثاني 2020.

فترامب يعتقد أنّ ما يمكن أن يحقّقه من «إنجازات» اقتصادية ومالية، فضلاً عن السياسية والعسكرية (صفقة القرن وإنهاء نفوذ إيران في المنطقة)، من شأنه أن يزيد من رصيده الشعبي والسياسي ويؤهّله للفوز بولاية رئاسية جديدة.

في أيّ حال فإنّ دعوة هيل الى تفعيل الحكومة المستقيلة، إنما يكشف عاملاً من العوامل الخارجية التي تعوق تأليفَ الحكومة العتيدة وتحدّث عنها كثيرون ولا يزالون، وذلك الى جانب العوامل الداخلية المعروفة لدى الداخل والخارج، ما يدفع البعض للتأكيد أنّ ما يمنع إنجاز الاستحقاق الحكومي هو كل هذه العوامل مجتمعة، وأنّ ما كان لاح قبل شهرين في الأفق من «ضوء أخضر» للتأليف تبيّن أنه أحمر، وأنّ الذين رأوه أخضر إكتشفوا أنهم أصيبوا بـ «عمى ألوان».