تجمع بين الفرقاء الشيعة في العراق علاقات متوترة وتنافس شرس، لكنهم ينجحون غالبا في إدارة خلافاتهم حفاظا على مصالحهم.
 
تراجعت بشكل مفاجئ، في العراق، حدّة التراشق بين تيار الحكمة الذي يقوده عمار الحكيم، وميليشيا عصائب أهل الحقّ بقيادة قيس الخزعلي، وذلك بعد أن بلغ السجال الإعلامي ذروته أواخر الأسبوع الماضي، منذرا بصدام في الشارع بين أتباع الفريقين لم يكن مستبعدا أن يتطوّر إلى مواجهة مسلّحة بالنظر إلى الاحتقان الشديد ومستوى العداوة المستحكمة التي كشفت عنها التصريحات والتصريحات المضادّة.
 
وانطلقت شرارة “المعركة” من مقتل صاحب مطعم شهير في بغداد، واتهام أتباع الحكيم لعصائب أهل الحق باغتياله. وسرعان ما تطوّر الأمر وتحوّل إلى تبادل للشتائم والسباب بأقذع العبارات، وتراشق بالاتهامات عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
 
وبدا للحظة أن ملفات كبيرة ستُفتح وقضايا خطرة ستثار، نظرا إلى دراية كلّ طرف بخبايا الطرف الآخر، واطلاعه الواسع على ما يمكن أن يكون قد قام به من تجاوزات وجرائم.
 
ومع إعلان سحب كلّ طرف دعوته لأنصاره إلى التظاهر في الشارع ضدّ الطرف المقابل، انطلقت الإشادات بـ“حكمة” الطرفين و“مسؤوليتهما”، وأيضا بـ“حصافة” الوسطاء و“بعد نظرهم”، لكنّ مصادر عراقية متعدّدة أكّدت أن وراء تراجع تيار الحكيم وعصائب الخزعلي، المخاوف المشتركة بينهما وبين مختلف الأطراف المشاركة في الحكم بالعراق، لا سيما الأطراف الشيعية القائدة للدولة، من انفلات الشارع المشحون بالغضب والمتحفز للتظاهر والاحتجاج.
 
وقالت المصادر ذاتها إنّ تدخّلات من وُصفوا بـ“الوسطاء” لم تكن سوى إنذارات وُجّهت للطرفين من قبل كبار قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية وعدّة أطراف مشاركة في الحكم ومستفيدة من النظام القائم، بأنّ “خطرا يتربّص بالجميع، وأنّ العملية السياسية مهدّدة بالانهيار”. كما شرحت المصادر ذاتها بأنّ مخاوف لدى الحكيم والخزعلي من انكشاف ملفات خطرة تخصّهما، كانت أيضا من أقوى الدوافع وراء جنوحهما للتهدئة، بناء على دراية كلّ طرف بقدرة الطرف الآخر على فضحه وكشف خباياه.
 
وعلى سبيل المثال -بحسب المصادر نفسها- فقد ذهب أتباع عمار الحكيم رأسا إلى إثارة قضية نهب معدّات المصفى النفطي في بيجي من قبل عصائب أهل الحقّ التي شاركت في استعادته من تنظيم داعش، بينما سارعت العصائب إلى التلويح بفتح ملف استيلاء آل الحكيم على عقارات الدولة منذ 2003 وأيضا استخدام مكانتهم الدينية لتحصيل أموال من أبناء الطائفة الشيعية واستخدامها لأغراض حزبية وخاصّة.

وتعليقا على ما أثير خلال تراشق “الحكمة” والعصائب”، قال النائب بالبرلمان العراقي رياض المسعودي إنّ “التوافقات السياسية التي كانت موجودة في السابق منعت فتح الكثير من ملفات الفساد”، مضيفا “هناك تخوف من اقتتال ونزاعات عسكرية داخلية في حال فتح ملف ما”. واستدرك النائب ذاته بالقول “الملفات التي أثيرت مؤخرا بشأن مواد مصفى بيجي وكذلك الملفات التي تحوم حولها شبهات فساد في الحكومات المتعاقبة يجب فتحها والتحقيق فيها بشفافية”.

ويقع مصفى بيجي، أحد أكبر مصافي النفط في العراق، بشمال محافظة صلاح الدين، شمالي العاصمة بغداد. وخلال غزو تنظيم داعش للمناطق العراقية انطلاقا من صيف سنة 2014، تمكّن التنظيم من دخوله والتمترس داخله، قبل أن يستعاد لاحقا من قبل الميليشيات الشيعية المنضوية ضمن الحشد الشعبي.

لكنّ المصفى بدا بعد استعادته خاليا من أبرز معداته، وخصوصا أغلاها ثمنا، لتتوجّه التهمة مباشرة إلى الميليشيات الشيعية، وبشكل خاص ميليشيا عصائب أهل الحق بتفكيك تلك التجهيزات ونقلها صوب جنوب العراق، لتروج أنباء بعد ذلك عن عبورها الحدود صوب الأراضي الإيرانية حيث فُقد أثرها هناك.

ومنذ سنة 2003 تقود تيارات شيعية يستند أغلبها إلى ميليشيات مسلّحة الدولة العراقية بشكل أساسي.

ورغم سلبية تجربة الحكم المتواصلة منذ ذلك الحين، وآثارها السلبية على مختلف الصعد، إلاّ أنّ النظام القائم في العراق أبدى استعصاء كبيرا على التغيير ومقاومة شرسة للإصلاح، وذلك بفعل الحرص الشديد من قبل أطرافه على حمايته حفاظا على المصالح التي يكفلها لتلك الأطراف.

وتجمع بين الفرقاء السياسيين الشيعة في العراق علاقات متوتّرة وتنافس شرس على المكاسب المادية والمناصب السياسية، كثيرا ما تخرج إلى العلن، من خلال معارك إعلامية كتلك التي اندلعت قبل أيام بين عمار الحكيم وقيس الخزعلي، لكنّهم ينجحون غالبا في إدارة خلافاتهم والإبقاء عليها ضمن سقوف محدّدة، تحفظ لهم مصالحهم المشتركة.