لا يمكن اعتبار مشهد زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى سوريا، بوصفه تفصيلاً أو عارضاً منفصلاً عن سياق توجهات إقليمية ودولية أصبحت واضحة، عنوانها ومضمونها هو سعي مختلف القوى والدول إلى التطبيع مع النظام السوري.

لكن، لماذا البشير؟ الإجابات مختلفة، وقد تكون متناقضة في آن، لكن بلا شك هي بداية تحول علني في المواقف العربية تجاه النظام السوري، وهي ستفتتح بداهة سلسلة من الزيارات الأخرى، وإن كانت على مستويات أقل تمثيلاً. ليغدو النزاع ليس على إسقاط الأسد أو بقائه. بل بات الصراع على الفوز به، وعلى من سيظفر بالتقرب منه.

الجهد الروسي

زيارة البشير، والتي تمثّل إنذراً عربياً بما هو آت، ما كانت لتخرج من بنات أفكار العرب. من أوحى بها هي موسكو.. التي تراقب أيضاً مجريات المفاوضات اليمنية، وتعمل على التقاط الإشارات السياسية، الدالة على تحولات مؤثرة في الأداء العربي، والدخول من الثغرات المستجدة في الخارطة الجيوسياسية. ما يهمنا هنا، أن ما ينطبق على إقناع العرب في التقرب من الأسد، والتمهيد لذلك بإرسال البشير، ينسحب على مسعى موسكو لتطبيقه على الواقع اللبناني أيضاً، وعبر بوابات مختلفة. بداية، كان قبل أشهر في ملف اللاجئين والمبادرة التي تقدّمت بها، وحالياً من بوابة المعضلة الحكومية، إضافة إلى حاجة بعض القوى المحلية إلى الغطاء الروسي في مجلس الأمن، الذي سيبحث (بناء على طلب إسرائيل) ملف أنفاق حزب الله.

ما يريده الروس في لبنان، هو تحقيق إنجاز جديد يضاف إلى سجل إنجازاتهم الشرق أوسطية، على غرار "الإنجازات" التي تحققت في سوريا حسب ظنهم، ليس عسكرياً أو سياسياً فقط، بل بفاعلية إدارتها في تسوية النزاعات الحدودية، جنوباً بالتحديد، أو كما يحدث حالياً في الحركة الضاغطة شرقاً من خلال التوافق مع الأتراك للدخول في عملية شرق الفرات.

التسوية التي نجحت موسكو في إرسائها بين إيران وإسرائيل، سيكون لها صداها اللبناني جنوباً، إنطلاقاً من معضلة الأنفاق وما سيليها. تماماً كما سيكون لزيارة البشير إلى دمشق، صداها اللبناني وفق المنطلقات الروسية.

تعويم الأسد وتشكيل الحكومة

منذ سنوات تسعى موسكو إلى إعادة تعويم الأسد عربياً وفي محيطه الإقليمي. وعملت على ما يشبه ربط النزاع بينه والأتراك منذ العام 2016، حيث التقت المصالح في أكثر من مكان.. وقد يكون حالياً محط التقائهما في شرق الفرات. لذلك، ليس صدفة أن تتزامن زيارة البشير مع موقف تركي لافت بأن أنقرة مستعدة للتواصل مع الأسد، "في حال فاز بانتخابات ديموقراطية"!، بمعزل عن أن المصطلح هنا سيكون خاضعاً لتفسيرات متناقضة على غرار التفسيرات المتناقضة لإتفاق جنيف 1، لكن لا بد من قراءة المؤشر التركي أولاً، وبالترابط مع زيارة البشير، كسياق متعدد الروافد، لا ينفصل عن ارتفاع الأصوات اللبنانية المطالبة بدعوة الأسد إلى لبنان، إلى القمة الإقتصادية العربية تحديداً، والتي تنطلق أيضاً من إيحاءات روسية، هدفها تثبيت "الإنتصار"، كما تثبيت "شرعية" الأسد أو تجديدها بعد تعويمه في "حضنه" العربي.

وعليه، تكشف مصادر متابعة إلى أن ثمة ضغطاً روسياً، برز في الأيام القليلة الماضية، على الإيرانيين وحزب الله والنظام السوري معاً، على أساس أن "ليس بإمكانكم الذهاب إلى جلسة مجلس الأمن، المخصصة للبحث في أنفاق حزب الله، والمزاعم الإسرائيلية عن خروقاته في الجنوب، من دون تشكيل حكومة". ولذلك، أعيد تشغيل محركات الحل الحكومي، والتي فهم منها التنازل الكلامي الذي قدّمه الوزير جبران باسيل، عن استعداده لتسمية وزير سني يمثل اللقاء التشاوري، يكون نتاج توافق بين الرئيس والحزب والنواب الستة. لكن باسيل وضع شرطاً جديداً مقابل هذا التنازل، وهو الحصول على وزارة الأشغال ووزارة الزراعة.

حزب الله رفض بشكل قاطع مطالبة باسيل بوزارة الأشغال، كما أحال فتح باب التفاوض على وزارة الزراعة إلى الرئيس نبيه برّي، الذي بعث على الفور رسالة واضحة إلى باسيل بأنه ليس مستعداً للدخول في هذا النقاش، و"عليهم تقليع أشواكهم بأيديهم". لم يعد المهم في لبنان موعد تشكيل الحكومة، في ظل التطورات المتلاحقة. الأهم سيكون ارتباط هذا التشكيل بما يجري في سوريا، أي ضبط الوقت اللبناني على الإيقاع السوري، بدوزنة روسية.

ثمة وجهة نظر روسية تقول إنه من الأفضل للبنان تشكيل حكومة جديدة، تتولى هي دعوة الأسد إلى لبنان، أو تضطّلع بمبادرة إعادة العلاقات، لا أن يحدث ذلك في حكومة تصريف أعمال، حتى وإن كانت هذه العلاقات معادة على نحو محدود وضيق دون الرؤساء، إنما على الأقل بمستوى وزراء أصيلين. وهذا، بالنسبة إلى موسكو، سيحدث عاجلاً أم آجلاً.