لا شك في أنّ الأشهر القليلة المقبلة، هي أشهرٌ خطرة في الشرق الأوسط، فلقد حسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمره وقرّر إعلان خطته للتسوية النهائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين والمعروفة بـ»صفقة القرن».
 

تردّد ترامب كثيرا قبل أن يحسم قراره، خصوصاً وأنّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الخارج من مواجهة غزة مثخن الجروح سعى بشتى الطرق الى دفع الرئيس الاميركي لتأجيل إعلانه الى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، أضف الى ذلك خشيته من سقوط حكومته اليمينية والتي باتت غالبيتها ضيقة جداً (61 مقابل 59).

كما أنّ نتنياهو كان التزم دائماً أمام شركائه في الحكومة من اليمين المتطرف أنه لن يوقّع أبداً على تسوية تلحظ وجود دولة فلسطينية.

صحيح أنّ «صفقة القرن» تتضمّن شبه دولة لا بل «وهم» دولة، إلّا أنّ اليمين الإسرائيلي المتشدّد يرفض حتى دولة وهميّة، لكنّ حسابات ترامب الداخلية محشورة أيضاً بعد «إنذار» الانتخابات النصفية لا بل أكثر. فأزمة وليّ العهد السعودي تهدّد بانهيار أحد أعمدة «صفقة القرن» الأساسية ما يؤرق ترامب، وهي أزمة دخلت قلب السياسة الاميركية وباتت ورقة قوية تلعب في غير مصلحة الرئيس الاميركي.

فعلى سبيل المثال إنّ عضو مجلس الشيوخ (الجمهوري) ليندس غراهام والمعروف بتأييده القوي لترامب اعلن أنه لا يوافق على قرار ترامب حول مقتل الخاشقجي، وأضاف أنّ تجاهل هذه الجريمة الوحشية لا يصبّ في مصلحة الأمن القومي الاميركي.

كذلك فإنّ السيناتور الجمهوري راند بول أيّد موقف زميله غراهام، واضاف أنّ من الخطأ استمرار بلاده في دعم صفقات الاسلحة مع السعودية.

بدوره كان السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان يميل الى تأجيل اعلان الخطة الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية: أولاً، لكي لا تؤثر على مجرى الانتخابات. وثانياً لكي لا تصبح بمثابة استفتاء عليها، ما يعني ارتداد أيّ خسارة لنتنياهو سلباً على «صفقة القرن». لكنّ فريدمان عدّل موقفه بعد استدعائه الى واشنطن.

ترامب يخشى انتخاباتٍ إسرائيلية تؤدّي نتائجها الى الإطاحة بما اتّفق عليه مع نتنياهو ودفع في سبيله كثيراً كمثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
والرئيس الأميركي بات أكثرَ قلقاً بعد أزمة السعودية ونتائج مواجهة غزة، فهو يريد ورقة قوية عجز عن تحقيقها جميع أسلافه ليخوض من خلالها معركة التمديد له.

ويتردّد في الأروقة الديبلوماسية أنّ ترامب قرّر طرح خطته ما بين كانون الثاني وشباط المقبلين في أقصى حد، وهو قدّم إغراءات لنتنياهو تساعده في تعزيز موقعه السياسي الداخلي عبر ممارسة واشنطن أقوى انواع الضغوط لفتح خطوط التطبيع العلني بين إسرائيل والعالم العربي.

فبعد زيارة رئيس التشاد لإسرائيل هنالك البحرين والسودان. فوزير الاقتصاد الاسرائيلي سيسافر الى البحرين مطلع السنة المقبلة بعد تلقّيه دعوةً رسميّةً للمشاركة في مؤتمر اقتصادي، كما أنّ واشنطن التزمت سرّاً بتخفيف العقوبات عن السودان والتي وضعت إثر اتّهام عمر البشير دولياً بارتكاب جرائم حرب في مقابل التزام السودان بقطع علاقاتها مع إيران ووقف مساعدتها في تهريب الأسلحة الى غزة، والانفتاح على إسرائيل.

لكنّ نتنياهو الذي بات يسرح ويمرح في العواصم العربية يريد اكثر من ذلك. وهو يدرك أنّ الشارع الإسرائيلي سيتأثر إيجاباً بالتطبيع الذي اصبح حقيقةً بعد كان حلماً، لكن ما يثير الشارع الإسرائيلي أكثر هو الشعور بالقوة وهو نقطة الضعف التي عانى منها نتنياهو خلال معركة غزة الأخيرة.

فمثلاً وزيرة العدل الاسرائيلية ايليت شاكيد اعتبرت أنّ «ما يُسمى صفقة القرن هو مضيعة للوقت، والسلام غيرُ ممكن لنكن واقعيّين».

ولأنّ واقع حكومته أصبح خطراً ألغى نتنياهو زيارته للبرازيل للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس البرازيلي الجديد المؤيّد بقوة لإسرائيل بسبب الغالبية الضيّقة والائتلاف الهش لحكومته.

نتنياهو ربما يريد ضربةً عسكرية تمنحه وهجاً في الشارع وتجعل المزايدين عليه داخل حكومته في موقع ضعيف، وهنا مكمن الخطورة وبيت القصيد، لأنّ البيت الابيض مستعدٌّ لمسايرة نتنياهو في مقابل إمرار الصفقة.

وفور تسلّمه حقيبة وزارة الدفاع التقى نتنياهو هيئة الأركان العامة، واضعاً غزة أوّلاً ومن ثمّ الضفة الغربية وثالثاً سوريا ولبنان أهدافاً له للأسابيع والأشهر المقبلة.

صحيح أنّ جيشه عاجزٌ عن خوض حرب مفتوحة، وهو ما قاله افيغدور ليبرمان بعد ساعات على خروجه من وزارة الدفاع ومؤكّداً تقارير الخبراء الإسرائيليين حول وجود كثير من العيوب في الجيش الإسرائيلي، لكنّ نتنياهو يأمل بضربة عسكرية خاطفة ذات طابع أمني. إلّا أنّ واشنطن التي تبدو مستعدّة لتسهيل عملية عسكرية أو أمنية خاطفة لنتنياهو تبدو حريصةً على درسها جيداً وعدم تخطّيها حدوداً معيّنة والابتعاد عن سياسة حافة الهاوية لكي لا تنزلق الأمور في اتّجاهاتٍ غير محسوبة.

وبدلاً من اشتعال غزة فقط تتحرّك الأوضاع في الضفة الغربية حيث أضحت «حماس» موجودةً بقوة، خصوصاً وأنّ رئيسها في غزة يُحيى السنوار والذي بات يمسك بمفاصلها بقوة، هو من المحسوبين على «حزب الله».

اضف الى ذلك ما تخشاه واشنطن جدّياًَ بسبب «طموحٍ» روسيٍّ قويّ بالدخول الى الملف الفلسطيني من باب قدرتها على المساعدة في ضبط الوضع. وهو ما يعني منح روسيا دوراً هائلاً في الشرق الأوسط في حال نجاحها في التسلّل الى داخل الملف الفلسطيني.

وكذلك فإنّ البيت الأبيض يريد من نتنياهو أن يدرس خطوته جيداً في حال قرّر الحركة في سوريا أو لبنان.
وخلال الاسابيع الماضية أرسلت وزارة الدفاع الأميركية بضع مئات من الجنود معظمهم من الخبراء الى شمال سوريا ولكن من دون الإعلان عن ذلك. وفي

خطوة موازية أعلن «البنتاغون» عزمَه على إقامة نقاط مراقبة على الحدود بين سوريا وتركيا بهدف منع تركيا من توجيه ضربة عسكرية مفاجِئة للأكراد شرق نهر الفرات. ذلك أنّ واشنطن ما تزال تحتاج الى خدمات عناصر الميليشيا الكردية. وفي الوقت نفسه تريد التحضير لاحقاً لمساومة وجود هؤلاء مقابل إلغاء تركيا صفقة شراء منظومة الدفاع الجوّي الروسي الأكثر تطوراً في العالم «إس 400».

وفيما لا تمانع واشنطن من حصول عملية أمنية إسرائيلية مدروسة ضد «حزب الله» في لبنان، فإنها تسعى لإشغال إيران بعيداً من الساحة الفلسطينية لإمرار استحقاق «صفقة القرن». ففي العراق تجدّدت الاجتماعات في البصرة في وقت تشجّع واشنطن الشيعة العراقيين على الابتعاد عن إيران.

ولأنّ العراق يشكّل الخاصرة الرخوة لإيران أو الساحة الامنية الحيوية، ردّت إيران من خلال توطيد علاقتها بأكراد كردستان الناقمين على الاميركيين بسبب عدم مساندتهم في استفتاء الانفصال عن بغداد.

والأهم عودة مسلسل استهداف الجنود الأميركيين في افغانستان مع مقتل ثلاثة جنود في مكمن منذ ايام. صحيح أنّ إيران ترسل اشارات إيجابية من غزة واليمن، لكن هذا لا يعني أنها وافقت على المرحلة المقبلة. في اليمن تبدي مرونة إزاء قرار وقف اطلاق النار، وفي غزة تعمّدت «حماس» إبقاءَ متظاهري يوم الجمعة بعيدين من السياج الفاصل منعاً للإحتكاك. لكنّ هذا شيء وفتح الأبواب امام المواجهة شيء آخر. mفي اختصار المرحلة المقبلة خطرة، ولبنان ليس بعيداً منها.