وقفت الفتاة الأثيوبية، التي تتكرّم علينا كلّ صباح ومساء وتساعدنا في الاهتمام بشؤون منزلنا الصغير، أمام نافذة المطبخ تنظر بخوف واستغراب إلى حبّات البَرَد العملاقة التي تتساقط من السماء... كان واضحاً أنها منذ قدومها إلى لبنان، كانت هذه أكثر مرة تشعر فيها بالغربة عن وطنها ومناخها وطبيعتها. حاولتُ جاهداً أن أطمئنها إلى أنّ هذه مجرّد موجة وتَمرّ، وستنقشع الغيوم وتتوقف العاصفة، لكنني لم أنجح في إيجاد الحجج المناسبة. كانت هناك حيلة أخيرة، حيلة كنت قادراً أن أقنعها فيها بأنّ هذا ليس أهم حدث في العالم اليوم، ولكنني خجلتُ من أن أكشفها لها، وكان أسهل عليّ بكثير أن أشاهد خوفها من أن أشاهد احتقارها لي، نعم احتقارها وازدراءها... خجلتُ أن أقول لها إنه بينما نحن اللبنانيين كنّا مُنشغلين بكلّ ما أوتينا من تليفونات وواتسابات ومواقع تواصل اجتماعي وانبهار جماعي بحبّات البَرَد، كانت بلادها تنتخب أوّل رئيسة جمهورية في تاريخها... رئيسة جمهورية يعاونها مجلس وزراء مكوّن من 20 وزيراً نصفهم من النساء.

لا أخفي عليكم انني قلتُ في نفسي إنّ هذه الفتاة لا بدّ أنها تملك في جيناتها أشياء من هذا الشعب الذي يعرف كيف يبني وطناً ويكرّم المرأة ويؤمن بقدراتها، على رغم فقره وتعدّد إتنيّاته ولغاته... شعرت للحظة أنني أريد أن أجلس معها لنتناقش بمواضيع السياسة اللبنانية وبكلّ العقد التي تمنع تشكيل الحكومة، وكان يمكنني أن أستفيد من ثقافتها السياسية التي حُرِمنا نحن منها، أكثر ممّا أستفيد من خدماتها في المنزل. شعرت أنها لو تكلّمت وأبدَت رأيها، لكانت قادرة أن تنظّف بلداً بأكمله من الفساد والمحاصصة والنكايات، وكانت قد وجدت حلولاً بديهية لعقد لبنانية، نُتقن ربطها ونتجاهل طرق فكّها. غمرتني المشاعر، خرجتُ من نفسي وبدأت أتخايلها تنظّم الحملات الانتخابية وتخطب على المنابر وتترشّح إلى منصب وزاري، وتفوز به وتصبح عضواً في الحكومة اللبنانية، وتخصّص ولايتها لتشريع القوانين التي تُنصف المرأة اللبنانية وتمنحها حقوقها وحقوق أولادها، وتشجّعها بالحجج والبراهين على الانخراط أكثر في الحقل العام لأنها قادرة على التغيير، وتقدم على خطوة جريئة تسمح بموجبها لجميع الأثيوبيات بالسباحة مع اللبنانيين في البيسينات والاستلقاء على غازونات المنتجعات، وتطالب لهنّ بقانون عمل يحميهنّ من الاستعباد اللبناني الحديث ويرمّم قليلاً من إنسانيتهنّ المفقودة فداء لجلسة تقليم أظافر وسولاريوم، أو من أجل تأمين راحة المَدام والمستر في المولات وفي غمرة دخان الأرغيلة. تخايلتها وزيرة تضرب بيدها على طاولة مجلس الوزراء وتذكّر المجتمعين بخطاب رئيس بلادها السابق، الذي أوعَز إلى وزرائه والمسؤولين في بلده الشهر الماضي بالتكاتف والعمل يداً واحدة لمكافحة الفساد حتى لا تصبح أثيوبيا مثل لبنان.

لكنّ «لبنانيتي» تفوّقت على مشاعري الوطنية، وتذكّرتُ أنني أخاف على جَلياتي وأثاثي ولمعان بلاطي وترتيب سريري، تماماً مثلما أخاف على طائفيّتي ومناطقيّتي ومحدوديّتي... وعدتُ، لاإرادياً، إلى تليفوني لأشاهد فيديوهات العاصفة التي ضربت لبنان، وكيف كسّرت حبّات البَرَد العملاقة زجاج السيارات ومزّقت برادي البلكونات، لأنبهر مع كل فيديو بهذا الحدث الجَلل الذي كسر الجمود السياسي والحكومي، وأضاف الإثارة إلى حياتنا البالية مثل أخبار الأمس التي تتكرّر مع كلّ صباح.

مرّت العاصفة وتوقف صوت البَرَد الهادر، فانسحبت الفتاة إلى عملها المعتاد، وركضتُ أنا إلى جهاز التلفزيون لألغي عنه كلّ القنوات الأثيوبية، لأحمي نفسي من أيّ نشرة أخبار تفتّح عينيها على المستجدات، فتكتشف الحقيقة وتعرف أنه في عالم عادل يجب عليّ أنا أن أرتّب سريرها، وأجلس على البلاط لساعات وأيام في مطار أثيوبيا بحثاً عن عمل.