لا بدّ من أن نتّفق على أنّ الله ليس سلعة... ولا بدّ من أن نعترف أنّ الله الذي يقول فيه المسيحيون «نؤمن بإله واحد ضابط الكلّ»، ويشهد به المسلمون «لا إله إلّا الله»، هذا الله نفسه، ليس خدمة معروضة للتجارة والمنافسة... بل ربّ نعبده بكتبه ووصاياه وأنبيائه ورسله وقدّيسيه.

 

فمنذ أن اكتشف اللبناني مفهوم الحياة الحزبية، لم يتمالك نفسه عن زجّ إسم الله في كلّ شعار وكلّ خطاب وكلّ استحقاق ومعركة سواء كانت انتخابية أو عسكرية. وكأنّ الأحزاب لم تجد شرعية لهيكليتها وديمومتها سوى في استخدام إسم الله، وكيف سيكون لها شرعية طالما أنّ حروبها وهمية ولا تبتغي سوى الربح الصافي لفئة في مواجهة أخرى، وكيف سيكون لها شرعية طالما أنّ الأحزاب على أشكالها وقعت في فخّ تهشيم البلد وليس صيانته، بما أنها افتقرت دوماً إلى أيّ شكل من أشكال الديموقراطية والمحاسبة والشفافية والمواطَنَة.


 
 

البنادق المزيّنة بصور العذراء مريم، والقنابل المرصّعة بالآيات القرآنية، والآليات المدموغة بالصلبان أو السيوف، كلّها شواهد حيّة في الذاكرة وحاضرة اليوم على الأرض لتحكي قصّة المقاومة، التي لم تكن يوماً حكراً على طائفة من دون أخرى، بل نهج اعتمدته الأحزاب اليمينية واليسارية لشدّ العصب ورَصّ الصفوف الطائفية، من أجل إلغاء الآخر وليس العيش معه، ومن أجل تحصين المربّعات الأمنية وليس تسييج الوطن.

 

استخدم الزعماء هذا النهج بدهاء وحنكة الى درجة أن كلّ مناصر لأيّ حزب في لبنان بات يعتبر عمله جهاداً دينياً مقدّساً وليس أبداً واجباً وطنياً، بشرط أنّ عمله فقط هو المقدّس وأعمال الآخرين هرطقة. غالبية المنخرطين في الأحزاب يمارسون عملهم إمّا خدمة للعدرا ومار شربل، أو دفاعاً عن إرث أهل البيت، أو زوداً عن الخلفاء الراشدين... وما زالوا يتمرّغون منذ الخمسينات، مروراً بالسبعينات وكل الحروب في ما بعدها، بمنطق إنقرض منذ العصور الوسطى، وبعقلية عشائرية وقبلية رثّة تفتفر أصلاً إلى أخلاق العشائر.

 

المشكلة ليست في الدين، لكنّ المشكلة هي في تسليع الدين لخدمة قادة يتمّ تأليههم وتقديسهم وسماع كلامهم بلا سؤال وتنفيذ أوامرهم بلا تفكير، المشكلة هي في ان البعض يدمج السياسة بالدين بغية ارتكاب المعاصي بناء على فعل صلاة.

 

بين الأحزاب والله مساحة شاسعة جداً تملؤها الاحتكارات والتنفيعات وتجارة الأسلحة والمخدرات وتبييض الأموال... بين الأحزاب والله زبائنية وحسابات ضيّقة وارتهان فاضح لقوى إقليمية وعالمية ورضوخ لسياسات وأجندات خارجية... بين الأحزاب والله يقف زعماء وأمراء حرب يلعبون دور الله على الأرض، فيخطبون باسمه ويشرّعون باسمه ويحشدون باسمه ويقاتلون باسمه ويدمّرون لبنان باسمه.


 
 

ليس من المهمّ أبداً كم يقترب اسم الأحزاب من الله، وحتى لو كان ملتصقاً به، طالما أنّ عمل هذه الأحزاب لا يرضي الله ولا يبني وطناً... طالما أنّ نشاطها لا يبني مجتمعاً ولا يرسّخ أخلاقاً... وطالما أنّ وجودها يهدف إلى التفرقة وفرض هيمنة فئة على أخرى.

 

ففي النهاية كلّهم يلبسون بدلات رسمية مع أو بلا كرافاتات، ويجلسون خلف طاولات للحوار يتلوّنون بالمواقف كما ألوان أحزابهم، وتكون البندقية تعنّ على بالهم... ونحن نشاهد ولا نحاسب، نعرف ولا نفضح، نتألم ولا نصرخ... وسيأتي ذلك اليوم الذي سنعرف فيه أنّ أحزاب الله ليست هي الغالبة، وأمّا هؤلاء المواطنين الذين ليس لديهم إله سوى الله وليس لديهم 
دين سوى الوطن هم الغالبون.