لم تكن الفُرص متاحة, لكافة الناس من أجل تحصيل العلم واكتسابه,فحسب ,بل كان تحصيله لمن أُتيحت له الفرصة أمرا عسيرا,ليس لصعوبة العلم وتعقيداته,  انما لكلفته الباهظة على طالبه,في مجتمع ٍزراعي,ذي سلطة اقطاعية محلية ظالمة,متفرعة عن سلطات اقليمية ,وأحيانا عن سلطات دولية طامعة وطامحة,  جل ما يعتمد عليه الفرد في هذه المجتمعات,الرعي والزراعة,وقد حدثتني أمي التي عاشت تلك الظروف,في قرية من قرى جبل عامل,كيف كانت أمها تبذل للمدرّس البيض البلدي  وشيئا من الحبوب,من أجل تعليم ابنتها فك الحرف وقراءة القرءان الكريم,واذا ما أتمّت الختمة الاولى طاف بها أهل القرية في أزقتها ,كما يطاف بالعروس الى بيت زوجها,ونادرا  ما يحصل ,أن عائلة ميسورة استطاعت ايصال ولد من أولادها الى جامعات الغرب ليعود طبيبا أو مهندسا,ولكن هذا الانجاز غالبا ما يكون على حساب حرمان أفراد العائلة من ضرورات العيش الكريم.  من قعر هذا الاجتماع وظلمته,نَفَرَ رجالٌ من تحت ستار الاميّة المسدل بمشيئة من ظننا أنه القدر,والذي شاء لنا غيابة الجبّ لالقاء اللوم على الذئب,ليتفقهوا في الدين امتثالا  لخطاب الاله "...فلولا نَفَرَ من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين...."فيمم العشرات منهم شطر النجف الاشرف ,ليعود البعض بعد عقود من السنين منذرين قومهم تنفيذا لغاية النفر"ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون".    عادوا متخصّصين بفهم وشرح النص الديني,حاملين لقب الاجتهاد,لأنهم بذلوا الجهد لفهم وتحصيل الحكم الشرعي من مداركه المقررة,(القرآن والسنة والاجماع والعقل)وأعتُبِروا المرجع الوحيد للناس ,في مجتمع تسوده ألأميّة والجهل والفقر,وابلوا بلاءً حسنا في نشر وتعليم الدين الحنيف,وهذا الفضل والجهد والاجتهاد والمثابرة يُذكر لهم.  "الاجتهاد مصطلح حوزوي,يطلق على الطالب الذي يبذل الجهد في تحصيل مراتب من العلم,ولا يخضع هذا المصطلح لموازين علمية  محددة حتى بات منقبة وهمية للطائفة الشيعية,واذا ما راجعت نتاجهم العلمي والفقهي منذ قرون عدة,وجدتها نسخا متكررة بعناوين مختلفة,وهذا ما يؤكد  مسؤولية علماء الدين في ايجاد تعريف جديد وواضح ,لا لبس فيه لمصطلح الاجتهاد,وبالتالي تحميله معنى الابداع الفكري والثقافي,لأن أي خوض في  المعلوم لا يسمى ابداعا واجتهادا,بل يسمى تقليدا بامتياز.أما الاجتهاد الابداعي المطلوب هو الخوض في المجهول لتطوير وتحسين المعلوم."  لكن ثمة اشكال يؤسف له,هو انقلاب غايتهم التي من أجلها كان النفر ألا وهي توعية المجتمع والنهوض به ,بمشروع فكري وثقافي ديني ,ينقذ الانسان من ظلمات الجهل والتخلف الى نورالعلم والوعي , بانشاء المدارس والمؤسسات الاجتماعية والتربوية والثقافية,بدل المؤسسات الخاصة التي جعلت منهم اقطاع ديني  بامتياز,أشدّ قسوة من الاقطاع السياسي,وتقاطعت مصالح الاقطاعين على حساب المواطن الذي لم يزل يبحث عن الذئب المتهم زورا بدم يوسف.    ,فضاع الحلم بالاجتماع الانساني العادل,تحقيقا لمقصد الشريعة ,الذي يتمثل بالعدالة الانسانية وكرامة الانسان,وحرية الانسان في الاختيار,  وبناءً على ما تقدم اختصوا بصلاحيات وامتيازات ,لم تزل الى يومنا هذا تلعب دورا سلبيا وتقف سدا منيعا أمام النهوض الفكري والثقافي والانمائي,  هذه الصلاحيات والامتيازات جعلت البعض منهم مصدرا لشرعية ألاقطاع السياسي التاريخي والمعاصر, ,وابن الجنوب يتذكر دائما كيف كان يجلس عشرات العلماء في مجلس البيك يهزون  برؤوسهم تأييدا لما يقول ويبتدع,كما يجلس اليوم العشرات بل الميئات تحت منبراقطاع بثوب جديد, ليهتفوا بالصلوات معجبين بلحن القول.  وبدل أن يلعب رجال الدين دور المنقذ للمجتمع ,تحولوا الى سلاح بيد السلطة التي هربوا منها اليها, وأصبحوا هم السلطة القامعة,باسم الحلال والحرام,والمقدس واللامقدس,وربطوا مصير التشيّع بزعامات عفى عليها الزمن,ونظّروا بلا خجل لانتخابات مزوّرة بلوائح معلّبة ,كل هذا من أجل مصالح خاصة وضيقة ,لا تتعدى زعامة مدينة أو قرية ,  واقتُصِرت أهدافهم على وظيفتين,الاولى اضفاء الشرعية على سلطة فاقدة للشرعية ,الثانية تصبير الناس في الدنيا ووعدهم بالاجر والثواب عند الله في عالم الآخرة,  وبقي رجال غضّ أبصارهم ذكرُ المرجع,وأراق دموعهم خوف المحشر,فهم بين شريد نادّ,وخائف مقموع,وساكت مكعوم,وداع مخلص,وثكلان مُوجع,  قد أخملتهم التقية,وشملتهم الذلّة,فهم في بحر أجاج,أفواههم ضامزة,وقلوبهم قرِحة,قد وعظوا حتى ملّوا,وقُهِروا حتى ذلّوا,وقتلوا حتى قلّوا....؟؟؟