في داخل كلّ واحد منّا مقهى يرتاده طفل مزعوج من صوت والدته يوقظه للذهاب إلى المدرسة... إزعاج مستديم رافَقنا في مشوار تعلّمنا فيه حتى نكبر، تعلّمنا الحساب والجغرافيا واللغات والصلوات، تعلّمنا الأخلاق وعقدة الكرافات والمشي بالكعب العالي، تعلّمنا أن نكبر بمسؤولية تحمينا حتى سنّ التقاعد... لكن لم يعلّمنا أحد كيف نشيخ، كيف نفقد ذاكرتنا وكيف ندخل الحمام عندما تخوننا ركبنا. لم يعلّمنا أحد كيف نكبر حتى نصبح والموت «مجايَلة».

في أفلام السينما تعلّمنا الغرام والقبلات والخيانة والبطولات، وشاهدنا من شبّاك التذاكر فانتازماتنا تجلس في الكراسي الحمراء. لكن في فيلم «غود مورنينغ» للمخرج اللبناني بهيج حجيج، كانت التجربة مختلفة وموجعة، لم يعد صوت والدتنا يزعجنا، ولم يعد مهماً أبداً كلّ ما تعلّمناه، إذ حوّل المخرج الشاشة العملاقة إلى لوح زجاجي نتأمّل من خلفه «مستقبل شايب» ينتظرنا ونحن لم نتعلّم عنه شيئاً.

ومثلنا كان يجلس بطلا الفيلم العجوزان الثمانينيّان غابرييل يمين وعادل شاهين، داخل مقهى صغير في أحد شوارع بيروت يتأملان من خلف زجاجه شوارع البلد ومعها زواريب عمرهما الذي وصل إلى نهايته.

تدور أحداث الفيلم كاملة داخل هذا المقهى، وتروي القصة التي كتبها الروائي اللبناني رشيد الضعيف يوميات عجوزين يزوران المكان لتناول القهوة وحلّ الكلمات المتقاطعة على صفحات الصحف اللبنانية، لاعتقادهما أنّ ذلك يساعدهما على تمرين ذاكرتهما وحمايتها من الخرف. ويوازي شيخوختهما وجود الصحافي الشاب الممثل رودريغ سليمان، الذي يعبّر بنظراته ونبرته عن صلة الوصل بين المشاهدين والممثلين، فيغرف بتعابيره من جعبتنا ويمرغها على خبز عمر يمّين وشاهين اليابس من لوعة العمر، فالأول يغنّي على الأيام لتنجلي والثاني مولع بسرد النكات ليضع قناعاً مبتسماً على وجه العمر البشع. 

لا تغادر كاميرا مدير التصوير ميلاد طوق المقهى أبداً، بل تكتفي بالتلصّص على الخارج قبل أن تهرب إلى الداخل مجدّداً لتتمايل مع تعابير غابرييل يمين الصادمة بوجعها وصدقيتها، ولتتراقص مع ضحكات عادل شاهين المُتناسي عدّاد الأيام.

ربما ليس من الصدفة أن يكون مسرح الفيلم محدوداً وصغيراً، وليس من الصدفة أن يكون العجوزان مولعين بالصحف الورقية، في حين الصحافي الشاب لا يقرأ الصحيفة أبداً بل يعمل على الكومبيوتر... وليس من الصدفة أيضاً أن يكون هناك عملية تهديم مبنى قديم نشاهدها أمام المقهى، ولا حتى أن يكون روّاد المقهى غافلين تماماً عن مآسي العجزة ونكاتهم وأغنياتهم وتصرفاتهم.

ربما أراد المخرج بهيج حجيج أن يكون أول سينمائي لبناني، وحتى عربي، يتناول مآسي العجزة على الشاشة الكبيرة... لكن هذا المقهى يعكس بحجمه وزجاجه وطناً صغيراً ومحدوداً إسمه لبنان، يكتفي بلعب دور المشاهد للأحداث الإقليمية والعالمية، ويعكس ببطليه الشيخوخة المتغلغلة في مؤسساته وفكره وأحلامه وحتى إرادته.

يمكن مكتوب علينا نحن البشر أن نشيخ ونموت، ولكن موت الأوطان يكون مفروضاً من ذاكرة شعب مصاب بالالزهايمر وهو شاب. 

صبّ الكاتب والمخرج والممثلين كلّ خوفهم في الفيلم من شيخوخة تراث نهدّمه، ومن شيخوخة صحافة وحريّات نمزّقها، ومن شيخوخة شعب ننشرها على المنابر ولا نكويها... وخوف من ذاكرة شعب مفقودة تلوّن شعر لبنان بالأبيض مع كلّ استحقاق.

مرّت السنين، واكتشفنا أنّ في كلّ واحد منّا مقهى يرتاده رجال ونساء غير منزعجين من ألزهايمر السياسة يوقظهم ليقصّ عليهم حقوق الشيخوخة.