لم يكن ينقص جلسة محاكمة إمام مسجد بلال بن رباح الشيخ أحمد الاسير إلّا توزيع «مكنة ضغط» على الحاضرين، نتيجة الاجواء المتشنجة التي رافقتها والسجالات الكلامية، ما دفع برئيس المحكمة القاضي طاني لطوف إلى رفع نبرته مراراً، وتحذير أحد وكلاء الأسير: «بدّك توَطّي صوتك إنت وعم تحكي مع المحكمة... ما تجبرني طلّعك برّا القاعة»، قبل أن ترجأ الجلسة إلى 22 كانون الثاني من العام المقبل.
 

«كلّو تفنيص.. السُنّة مظلومين!». تعليق من أحد الموقوفين، لدى سماعه اعترافاته السابقة، شَكّل الفتيل الذي أشعل الاجواء داخل محكمة التمييز في المحكمة العسكرية أمس، ولفت إلى انّ الجلسة لن تخلو من المشادّات الكلامية. لذا، سرعان ما عقد القاضي لطوف حاجبيه، وغلبت «العبسة» ملامح وجهه، قائلاً: «هون محكمة، مش لَصَف الخطابات السياسية».

في التفاصيل

هادءاً بَدا صباح المحكمة العسكرية، لأن لا جلسات على جدول أعمال المحكمة الدائمة، فالخميس مخصّص للمراجعات، إذ يستمع رئيس المحكمة العميد حسين عبدالله إلى المحامين واستفساراتهم، يراجع ملفاته بين المواعيد. امّا على أجندة محكمة التمييز فمجرد جلستين، «بس وحدة قد 100»، على حد تعبير أحد العسكريين، غامزاً إلى دعوى الاسير التي تدفعهم إلى إبقاء عيونهم 10 على 10.
المشهد على حاله في الساحة الخلفية للمحكمة، فهي تغص بسيارات القضاة، والامنيين، والآليات الخاصة بنقل الموقوفين، وحده وصول المتهمين بأحداث عبرا كَسر الروتين، ومن بينهم أحمد الاسير الذي أُدخل قرابة الحادية عشرة والنصف، «مطَمّش» العينين بقطعة قماش رمادية، يقوده أمنيّان، واحد عن يمينه وآخر عن يساره، إلى النظارة ريثما تبدأ الجلسة.

قرابة الثانية عشرة ظهراً فُتح باب محكمة التمييز، وحضرت هيئة المحكمة التي ضمت رئيسها طاني لطوف ومجموعة من المستشارين وفي حضور ممثل النيابة العامة التمييزية القاضي غسان الخوري. نادى لطوف بداية: أحمد الاسير، فغادر مقعده «البنك الاخير» من القاعة متجهاً نحو قوس المحكمة. بَدا الاسير بصحة جيدة، وبمظهره المألوف، قلنسوة بيضاء، عباءة «باج»، حذاء رياضي أسود، نظارات «عضم أسود»، ولحية طويلة قد غلبها الشيب. وتقدّم في الوقت نفسه وكلاء الدفاع عنه محمد صبلوح وأنطوان نعمة، وواصَل لطوف منادات المتهمين، وهم: عبد الباسط محمد بركات، خالد عدنان عامر، حسين محمد فؤاد ياسين، محمد ابراهيم صلاح، ربيع محمد الناقوزي، محمد علي الاسدي، والمخلى سبيله يحيى طراف دقماق. وعَلّق لطوف: «الخصومة مكتملة، يمكننا المباشرة بتلاوة القرار الاتهامي». وتوجه إلى المحامين بالسؤال: «في شي بَدكن تقولوا؟». فتطرق أحد وكلاء الدفاع عن الاسير إلى الدفوع الشكلية التي قُدمت.

فقال لطوف: «هناك مذكرة دفوع شكليّة مقدّمة من وكلاء الدفاع عن الاسير، موضوعها الطعن بالتحقيقات الأوّلية تقرّر ضمّها للأساس، وهناك مذكرة أخرى مقدمة من المحامي محمود صبّاغ تتناول انتفاء الصلاحية، تقرّر ردّ هذا الدفع شكلاً لأنّ موضوع الدعوى يتناول أساساً من خلال قرار الإتهام معركة حصلت بين المدعى عليهم وعناصر من الجيش اللبناني».

«وِلعت»

حاول أحد وكلاء الاسير طلب الاستمهال لاتخاذ موقف من قرار ضمّ الدفع الشكلي المقدم منه إلى الأساس، إلّا انّ لطوف طلب منه التريّث وعدم الإستعجال إلى حين تلاوة القرار الإتهامي.

ثمّ قدّم صبلوح للمحكمة، وبناء على طلبها، نسخة باللغة العربية مترجمة ومصدقة عند ترجمان محلّف والنسخة الاصلية بالانكليزية، عن رأي مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من محاكمة الأسير، الذي رأى أنها ليست بمحاكمة عادلة وطلب بعض الإصلاحات لناحية المحاكمة والسجن وغيرها من القضايا.

أما المحامية زينة المصري فقدمت نسخة عن إخراج قيد المتهم خالد عدنان عامر يثبت أنه لبناني الجنسية، نظراً إلى أنه في القرار الإتهامي وخلاصة الحكم الصادر بحقه كان يتمّ ذكره على أنه سوري الجنسية.

بعدها، وقف أحد العسكريين لتلاوة القرار الاتهامي، ولكن ما إن بدأ بتلاوة اعترافات الموقوف ربيع محمد الناقوزي، حتى اعترض الاخير، قائلاً: «كلّو تفنيص، أهل السُنّة مظلومين في لبنان، والشيخ الاسير بريء». فسارع القاضي لوضعه عند حده: «تقول ما لديك خلال استجوابك، المحاكمة ستنطلق من الصفر، أمامك متّسع من الوقت لتقول ما لديك». إلّا انّ الناقوزي لم يهدأ، فرفع لطوف صوته غاضباً: «هون محكمة مش لَسفِق الخطابات السياسية». بقي الاسير جامداً، من دون ان يتلفّظ بأي كلمة، مكتفياً بالتحديق إلى الموقوفين في القفص.

حيال توتر الأجواء، إستنفر العسكريون في القاعة وشددوا حراستهم ونظراتهم في كل أرجائها، وواصل العسكري تلاوة القرار الإتهامي وسط تململ الموقوفين وتأففهم، منذ الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق إلى الواحدة إلّا ثلثاً.

ملف التعذيب حتى الموت

بعد الانتهاء من القرار، طلب صبلوح الكلام: «ريّس لدينا طلب، في العسكرية الدائمة يُحاكم مَن أقدم على تعذيب الموقوف نادر بيومي إلى حد التسبب بوفاته، والجلسة في 23 من الشهر المقبل، ونحتاج لصورة عن الملف، لأن ما تعرّض له بيومي تعرّض له الأسير وبقية الموقوفين». مشيراً «الى انّ في خلاصة تقرير الامم المتحدة وقّع لبنان على اتفاقية مناهضة التعذيب، هي ملزمة، وتقع على المحكمة مسؤولية إثبات التعذيب لا الضحيّة». فرد لطوف: «كيف بوسعي طلب الملف ولا يزال في المحكمة الدائمة؟». وأضاف: «هل من مات له علاقة بالملف؟». فأجاب صبلوح: «لا». وأكمل لطوف: «ليس لدي سلطة على «الدائمة»، والمحاكمة مستمرة». وتابع بنبرة حاسمة: «ما إلي سلطة ولا صلاحية، الملف بتبقى بتستعملو كدفاع في مرحلة الإستجواب، هلّق ما بيفيدك، بعدين منشوف وين صارو بالمحاكمة».

وحاول لطوف التوضيح: «ان المحاكمة إنطلقت من الصفر، وسنستمع إلى الجميع، والكل بوسعه استخدام ما لديه من أدلة وبراهين». حينها حاول وكيل الاسير مقاطعته بنبرة عالية، مشيراً إلى أهمية النسخة من ملف «بيومي»، فردّ لطوف والدم يغلي في عروقه: «من مصلحتك ان يتحاكم الاسير هنا، وأنت تتوجّه إلى محكمة عليك أن تُخفض صوتك، وأي طلب ستطلبونه سيتأمن بعد المباشرة في الاستجواب، لكن طلبكم في الوقت الراهن غير مفيد».

بعدها، إستمهل ممثل النيابة العام القاضي الخوري للتحضير للاستجواب، كذلك وكلاء الدفاع، إلّا انّ الاجواء عادت وتوترت حين حاول مجدداً أحد وكلاء الاسير الاستمهال لأخذ موقف من قرار المحكمة لجهة ضمّ دفوع إلى الاساس، فثار غضب لطوف مؤكداً «انه آن الاوان لوضع حد للطلبات وللمداخلات بهدف المماطلة»، فردّ وكيل الاسير نفسه: «عم بحكي بالقانون»، فأجاب لطوف: «إنت جايي تعلّمني القانون؟ كفى عرقلة». وتابع: «ما تجبرني على إخراجك من المحكمة... قَدّم طلباتك خطياً وأنا أقرّر بعدها».

وبعد أخذ ورد وتَململ المحامين من زميلهم، وعند الواحدة ظهراً أرجئت الجلسة الى 22 كانون الثاني 2019، على أن تكون مخصّصة للإستجواب.