إذاً، انجلت الصورة. ليست المسألة نزاعاً داخلياً على الحصص. إنها نزاع على القرار في الحكومة المقبلة، وعلى النهج السياسي الذي ستتبناه هذه الحكومة. فالاعتبارات الداخلية ليست سوى تفصيل بسيط يمكن حلّه بسهولة. وفي عبارة أكثر وضوحاً: الاعتبارات الداخلية ليست سوى الترجمة المحلية لنزاع المَحاور الإقليمية على النفوذ في لبنان.
 

أخيراً، باتت المسرحية أكثر انكشافاً: إبتعد الرئيس سعد الحريري عن شريكه في التسوية الشهيرة، الرئيس ميشال عون، اضطرارياً. فالمقتضيات تفرض ذلك. ويتجنّب الحريري تأليف حكومة «طابشة» لـ8 آذار، كما هو المجلس النيابي، لأن ذلك سيأخذ القرار اللبناني على مدى 4 سنوات ليكون في يدِ محور واحد.


وسيعني ذلك أيضاً أن التطبيع بين بيروت ودمشق سيُفتح بابُه العريض، وأن الحريري نفسه وسائر الرافضين للتطبيع سيجدون أنفسهم مضطرين، بحكم مسؤولياتهم الرسمية، إلى القبول بالتطبيع والذهاب طوعاً إلى دمشق… ولو أصرّ باكراً على القول عكس ذلك. فماذا مثلاً لو تم ترميم العلاقات بين دمشق وبعض القوى العربية؟ ألن يكون ذلك دافعاً الى ترميم مماثل في العلاقات بين دمشق والحريري؟


طبعاً، يرى كثيرون من رافضي الانفتاح على دمشق أنه يذكّرهم بمرحلة يصفونها بالبائسة. ولكن في عدد من الأوساط، ومنها «التيار الوطني الحر»، هناك من يسأل: ألم يكن بعض المعترضين اليوم مستفيداً من تلك المرحلة «البائسة» لبناء النفوذ والمكاسب وبلوغ المواقع؟ واستطراداً، كيف يرفض هؤلاء اليوم إعادة إقحام دمشق في المسائل الداخلية، فيما هم ينتظرون الإشارات من الخارج لتأليف الحكومة؟


رئيس «التيار»، الوزير جبران باسيل، «يبقّ البحصة» في هذا الملف، ويقول لـ«الجمهورية»: «بات واضحاً أنّ عقدة الحكومة تتجاوز الخلاف الداخلي على الأحجام. وتبيّن لنا أن هناك قوى خارجية يهمّها إسقاط نتائج الانتخابات النيابية التي أعطت الغالبية لفريقنا السياسي. وهي توحي لبعض الذين في الداخل بأن تأتي التركيبة السياسية للحكومة العتيدة مختلفة عن تركيبة المجلس. وهذا ما نعتبره إخلالاً فاضحاً بنتائج الانتخابات ونسفاً لها». ويضيف: «نطالب الرئيس سعد الحريري بأن يراعي الاعتبارات الوطنية الداخلية فقط، فلا يُنصِت إلى أي شروط يريد بعض القوى الخارجية المعروفة إملاءها على اللبنانيين. وفي أي حال، إذا كانوا يريدون حكومة وفاق وطني فعليهم أن يدركوا أننا لن نقبل بحكومة وفاق ما لم تكن تركيبتها السياسية متوافقة مع تركيبة المجلس، أي مع إرادة الناس الذين عبّروا عن خياراتهم السياسية في الانتخابات».


ويتوجّه باسيل إلى الرئيس المكلّف، قائلاً: «أقول للحريري «شدّ حالك» وحدّد خياراتك الواضحة من دون تأخير، ونطلب منك أن تكون عادلاً في الصيغ الحكومية التي تطرحها». ويوضح: «مثلاً، لا مشكلة لدينا في الحصة التي يريد الحريري إعطاءها لـ»القوات اللبنانية» في الحكومة، ولكن عليه أن يعطينا ضعف هذه الحصة، ما عدا الحصة المعروفة لرئيس الجمهورية. فكتلة «القوات» تضم 15 نائباً، ونحن عدد نوابنا هو الضعف».


وعندما يُسأل باسيل: ألا تظلمون الرئيس المكلّف عندما تلمّحون إلى أنه يتأثر بالايحاءات أو الضغوط الخارجية في موضوع الحكومة؟ يجيب: «نحن أكثر الحريصين على الحريري، وعلاقتنا به بقيت دائماً ممتازة، ولكن عليه أن يتحمّل المسؤولية ويضع حداً للمماطلة في التأليف ويعطي كل ذي حقّ حقّه».


ويوضح باسيل أنه خاطب الحريري بالقول: «أنا لم أتدخل في شؤون أي من الفئات الأخرى، لا الشيعة ولا السنّة ولا الدروز، فأرجو أن لا يتدخل أحد في شؤون التمثيل المسيحي، وليتركونا نتدبّر هذه المسألة في ما بيننا. ولنفترض أننا اختلفنا مع «القوات» حول تفسيرنا لاتفاق سابق في ما بيننا حول الحصص، فما شأن الآخرين بهذا الاتفاق ليتدخلوا ويدلوا بدلْوِهم؟ وحتى القوى المسيحية الأخرى، التي يَعتقد البعض أنها في حال قطيعة مع «التيار»، تتواصل معنا. وقد زارني (قبل يومين) وفد كتائبي، ليس على مستوى القيادة، في مسعى لتحسين العلاقات».


ويضيف باسيل: «الرئيس بري مثلاً أعطى وزارة الأشغال لـ»المردة» في الحكومة الحالية (تصريف الأعمال). وقد سألته: هل أنتم في صدد تكرار ذلك في الحكومة العتيدة وإعطاء «المردة» هذه الوزارة مجدداً، فقال: لا. فقلت له: إذاً، لماذا تقوم القيامة علينا إذا قررنا عدم مراعاة بعض الاعتبارات التي وافقنا عليها في الحكومة السابقة؟ ولماذا يكون طبيعياً كل ما يفعله قادة الطوائف الأخرى ويكون ما نفعله نحن موضع استغراب واستهجان دائماً؟.


وعن مناخ لقائه الاخير مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، يقول باسيل: «بدأت الفكرة بمفاتحة من جانب نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي، فقلت له أنا مستعدّ للقاء الرئيس بري وكأنّ شيئاً لم يكن. وفعلاً، هذا ما حصل. واللقاء معه لم يتطرق إطلاقاً إلى الإشكالات التي وقعت سابقاً بيننا، وتحدثنا عن الحاضر والمستقبل بكل روح إيجابية ورغبة في التعاون لمواجهة التحديات، ولا سيما منها قضايا الاقتصاد والنازحين وتحريك العمل التشريعي».


إذاً، هو رهان على أن تولد «في سلام» أول حكومة للعهد بعد الانتخابات النيابية. وفي المبدأ، يُفترض أن تكون هذه الحكومة هي الأولى والأخيرة. والثابت فيها أنّ الحريري هو الذي سيترأسها، أيّاً كانت الظروف. وبالنسبة إلى باسيل، فإنّ ولادة الحكومة ضرورة لنجاح العهد في مواجهة التحديات، ولا سيما منها الاقتصادية.


ولكن، هل يمكن الرهان على إنعاش الاقتصاد وبناء المؤسسات وإنجاح العهد ما لم يكن الهدف الأول له هو ضرب الفساد؟


يجيب باسيل: «الفساد يضرب أينما كان في لبنان. وخصومنا في السياسة يطلقون الاتهامات في اتجاهنا أيضاً، ويتعامون عمّا يرتكبونه من مفاسد. ويا للأسف، نحن نعمل ما في وسعنا لشرح وجهة نظرنا، ولكن لا يمكننا دائماً إزالة ترسّبات الاتهامات من أذهان البعض من الرأي العام. لكننا نعد الجميع بأنّ العهد ماضٍ في محاربة الفساد».