أما وقد «انكسرت الجرّة» (المكسورة أساساً) بين «التيار الوطني الحرّ» و«القوات اللبنانية»، وكشف تفاهم معراب كثيراً من الخبايا، فإنّ العودة إلى بعض الوقائع خلال الانتخابات النيابية الأخيرة والتحضيرات التي سبقتها تبدو مفيدةً لاستجلاء الأزمة الحالية. ولعلّ الأبرز هنا هو الآتي: لماذا خاضت «القوات» الانتخابات وحدها تقريباً، وقاطعَها في آن واحد، وفي شكل متعمّد، شريكا التسوية، التياران الأزرق والبرتقالي؟
 

يهمس بعض القريبين من الرئيس سعد الحريري بأنّ جردة الحساب التي أجراها، بعد الانتخابات النيابية، بمشاركة كوادر «المستقبل» وخبراء انتخابيين، أظهرت أنه لو تحالف مع «القوات اللبنانية» لكان حظي بكتلة نيابية تفوق كتلته الحالية بما بين 4 و6 مقاعد. كما أنّ «القوات» كانت ستحظى بعدد إضافي من النواب.


وفي الخلاصة، كان يمكن أن تحصل قوى 14 آذار على تمثيل يفوق تمثيلها الحالي بما بين 8 و10 نواب. وهذا من شأنه أن يقلّص من الهوة مع قوى 8 آذار داخل المجلس.


يسمّي هؤلاء الدوائر التي كان ممكناً أن يكون فيها التحالف مع «القوات» مصلحة للطرفين، وهي: الكورة وزحلة والأشرفية وصيدا- جزين. وكان يمكن لـ14 آذار أن تكون في وضع أفضل لو شارك حزب الكتائب أيضاً في هذا التحالف. فذلك كان يمكن أن يوسِّع دائرة الحاصل الانتخابي إلى الحدود القصوى.


هذه النظرة يتبنّاها أيضاً السعوديون الذين كانوا يرون أنّ أفضلية تيار «المستقبل» في الانتخابات يجب أن تكون التحالف ضمن 14 آذار، ومن ثم التحالف مع النائب السابق وليد جنبلاط وسائر المستقلين، بحيث يتم تقليص أحجام قوى 8 آذار في المجلس أقصى ما يمكن.


لم يلتزم «المستقبل» بهذه المقولة. وتحالف مع الوزير جبران باسيل الذي راهن على النتائج في دوائر عدّة، ولاسيما دائرة الكورة- البترون- بشري- زغرتا، حيث كان يتشوَّق إلى تحقيق انتصار، بأيِّ ثمن، يُدخله إلى المجلس النيابي ويكون بوابة حتمية إلى الزعامة المسيحية.


كان مثيراً أن يسلك الحريري مساراً تحالفياً في الانتخابات لا يلتقي مع النظرة السعودية إلّا في جانب واحد هو عدم التحالف المباشر مع «حزب الله». فأزمة «استقالة» الحريري في تشرين الثاني الفائت كانت قد انتهت إلى تفاهم متبادل على هوامش التحرّك والانفتاح على حلفاء «حزب الله».


البعض، من بعيد، يعتقد أنّ الحريري «خُدِع» في تحالفاته الانتخابية، وأنه لذلك «انتفض» على الماكينة السياسية التي رسمت له معادلات المعركة الانتخابية وأقنعته بالتحالف مع «التيار الوطني الحرّ» حيث يمكن، ومقاطعة «القوات» في شكل شبه كامل، أي التحالف معها فقط في الدوائر التي «ينحشر» فيها الحريري.


ويضيف هؤلاء: لقد دفع الثمن كثير من الكوادر، ولاسيما «مهندس» العلاقات مع الوزير جبران باسيل، إبن عمته نادر الحريري الذي ساهم في صياغة قانون انتخاب نسبي- تفضيلي كان محسوماً أنه سيمنح 8 آذار غالبية في المجلس الجديد.


لكنّ المطلعين عن كثب على حراك الحريري في فترة التحضير للانتخابات، يمتلكون معلومات تخوّلهم النظر إلى الأمر من زاوية أكثر واقعية. ففي الدرجة الأولى، كان الحريري قد تلقّى قبل الانتخابات آراء خبراء تستنتج أنّ «التيار الوطني الحرّ»، في ظل عهد الرئيس ميشال عون، يتمتع بقاعدة شعبية أوسع من قاعدة «القوات»، على الصعيد المسيحي.


وتالياً، وفق هذه النظرة، إنّ تحالف «المستقبل» مع الحريري سيشكل له رافعة يحتاج إليها للتعافي من أزمة تفاقمت خلال غياب الحريري عن البلد، فيما تحالُفُ «المستقبل» مع «القوات» سيكون في مصلحتها هي، وسيقوّي حضورها الاعتراضي «المزعج» ضد التيارين المتوافقين الأزرق والبرتقالي في مجلس الوزراء.


ولكنّ المطلعين يجزمون بأنّ السبب الأساسي لتحالف الحريري مع «التيار الوطني الحرّ» في الانتخابات، على حساب «القوات»، يكمن في التسوية المشروطة القائمة بين الأزرق والبرتقالي. فباسيل يريد أن يطمئنّ إلى أنّ الحريري خرج من تحالفاته في 14 آذار، ولاسيما مع «القوات اللبنانية»، ليقيم معه الشراكة التي يتمنّاها داخل مجلس الوزراء.


في عبارة أخرى، لا يمكن للحريري أن يأمل في العودة إلى رئاسة الحكومة إلّا إذا قدّم أوراقه كاملة إلى عون و»التيار الوطني الحر». وقد تبلَّغ ذلك مباشرة قبل الانتخابات. وبالتأكيد، قد يتمكّن الحريري من زيادة نوابه 4 أو 5 إذا تحالف مع «القوات» في الدوائر التي تمتلك فيها رصيداً شعبياً، لكنه في المقابل سيخسر رئاسة الحكومة. وفي المفاضلة بين عدد النواب ورئاسة الحكومة، بالتأكيد هو سيختار الثانية.


لذلك، يضيف المطلعون، كان الحريري أساساً يميل في الانتخابات إلى اعتماد التحالف الانتقائي مع القوى المسيحية، وفقاً لكل دائرة وخصوصياتها، وحيث يجد مصلحته. ولكنه فضّل الاستغناء عن حلفه مع «القوات» لئلّا يثير إشكالية مع عون وباسيل تنعكس سلباً على موقعه في رئاسة الحكومة.


وبناءً على هذا المعطى، يقول هؤلاء، اتّخذ الحريري قراره بالابتعاد عن «القوات» في الانتخابات. واليوم، هو فوجئ بحجم تمثيلها الشعبي، وبات يدرك أنه لو تحالف معها في بعض الدوائر لكان زاد من عدد نوابه، لكنّ ذلك لا يعني أنه نادم. فهو في أيِّ حال يريد الاحتفاظ برضى عون وباسيل ليتمسّك بـ»رئاسة الحكومة أولاً».


لذلك، ليس صحيحاً أنّ الحريري اتّخذ الإجراءات العقابية داخل تيار «المستقبل»، بعد الانتخابات، لأنه يحمّل بعض الأقربين والكوادر مسؤولية عن النتائج الضعيفة التي حققها تيارُه في الانتخابات.


والأرجح أنه قام بذلك ليبعث برسالة إلى الجهات المعنية مفادها أنه لم يكن راضياً عن إدارة المعركة التي صبّت في مصلحة «حزب الله» وحلفائه، أي ليغسل يديه من نتائجها. وهو اليوم يبعث برسالة أخرى في ملف تأليف الحكومة، ومفادها أنه لن يتساهل في الدفاع عن حصة «القوات» و14 آذار، ولن يتنازل لـ«الحزب» وحلفائه عن القرار في الحكومة الجديدة.


وهاتان الرسالتان تلقّاهما السعوديون بارتياح، لأنهما تؤشران إلى أنّ الحليف السنّي، الأساسي، ما زال يلتزم الضوابط ويتحمّل أعباءَ المواجهة ضمن إمكاناته الواقعية. وهذا أمر يكفل عدم تكرار صدمة تشرين الثاني 2017 ويسمح للجميع بأن يكون راضياً ومَرْضِياً عليه.