الدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات جاءت متأخرة جدا. فهي ليست دعوة من أجل العراق، بل من أجل ألا تنقلب تلك الميليشيات على الدولة فيفقد سياسيو العراق مكتسباتهم غير القانونية.
 

ما من شيء في العراق يُنبئ بأن زمن الميليشيات على وشك أن ينتهي، بالرغم من علو الصوت المناهض لاستمرار تلك الميليشيات في فرض سلطتها على الشارع.

وكما يبدو فإن أحدا لا يمكنه أن يصدق أن ذلك الصوت، جادا كان أم هازئا، نزيها كان أم مريبا، سيُحدث تغييرا في الواقع الذي فرض الميليشيات على الدولة، باعتبارها خيارا مستقلا، لا يمكن احتواؤه أو إزاحته، أو على الأقل تطبيعه في إطار مقبول.

فالميليشيات والتي هي في حقيقتها كتائب قتالية طائفية لا يمكنها أن تتخلى عن أطـرها العقائدية وتضع أمـرها في أيد غريبة، قد لا تكون أمينة على مستوى الحفاظ على الأهداف والمصالح التي أسست من أجلها.

وهي أهداف ومصالح تتناقض، كليا، مع فكرة قيام دولة قوية، تكون قادرة على فرض سيطرتها من أجل البدء بتصريف شؤون مواطنيها بطريقة نزيهة وعادلة.

تبدو المعادلة واضحة. إما الدولة وإما الميليشيات. أما الحديث عن تعايش الاثنين معا فهو نوع من الكذب، يُراد من خلاله تمرير الوقت وصولا إلى اللحظة التي تكون فيها عملية التهام الدولة من قبل الميليشيات واقع حال. وهو ما ظهرت علاماته مع انتقال زعماء تلك الميليشيات من صفة جزارين وقطاع طـرق ومدبري صفقات فساد، إلى صفة نواب في مجلس النواب العراقي الجديد.

تحول ينذر بالكثير من الشؤم والنحس.

في الماضي القريب كانت هناك محاولات لدمج الميليشيات في الجيش العراقي، كلها باءت بالفشل. فاستقلال الميليشيات هو شرط أساس لبلوغ الهدف المذكور سلفا.

ما حدث كان عكس ذلك تماما. فقـد فرضت الميليشيات على الدولة أن تقوم بتمويلها من المال العام من غير شروط. بمعنى أن الدولة صارت تموّل جهات مسلحة تعرف أنها تستعد للانقضاض عليها. وهو أمر لا يمكن استيعابه إلا من خلال العودة إلى مفهوم “الحرب الطائفية” الدائمة التي تورط سياسيو الدولة العراقية في تكريسها في أوقات سابقة من غير أن يحتاطوا من إمكانية أن تلتهمهم نار تلك الحرب.

سياسيو العراق خائفون اليوم من تمدد الميليشيات. في حقيقة الأمر فإن قوائم الإرهاب التي ضمت عددا من زعماء تلك الميليشيات، هي التي تخيفهم أكثر من الميليشيات نفسها. فالإرهابيون باتوا اليوم أعضاء في السلطة التشريعية، وهو ما يمكن أن ينزع الشرعية من تلك السلطة التي في إمكانها أن تعطل عمل الدولة.

بذلك يمكن القول إن الدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات جاءت متأخرة جدا. فهي ليست دعوة من أجل العراق، بل من أجل ألا تنقلب تلك الميليشيات على الدولة فيفقد سياسيو العراق مكتسباتهم غير القانونية. وهي مكتسبات، تشعر الميليشيات أنها ما كان من الممكن أن تتحقق لولا “تضحياتها”.

الخوف من الميليشيات له ما يبرره. ولكن ذلك الخوف لا يكفي سببا لأن تلقي الميليشيات سلاحها وتستسلم. لا شيء يجبرها على القيام بذلك. فهي الأقوى. وهي الجهة الوحيدة التي يستند وجودها في العراق إلى فتوى دينية. وهي المكلفة شرعيا من قبل الولي الفقيه الذي تتبعه بحماية مصالح إيران في العراق.

علينا أن لا نكذب على أنفسنا فنقول إن “مقتدى الصدر هو أقوى من الميليشيات”.

لقد سبق للصدر أن استمد قوته من جيش المهدي وسرايا السلام. هو الآخر زعيم ميليشيا لعبت دورا خطيرا في إشاعة لغة العنف في عراق ما بعد الاحتلال. ذلك التاريخ الشخصي يجعل الصدر في موقف ضعيف.

ما ربحه الصدر على المستوى السياسي يمكن أن يخسره حين يتعلق الأمر بالصراع مع الميليشيات التي لن تتخلى عنها إيران. وهو ما يشكل عقدة بالنسبة للصدر الذي يحاول أن يُغلّب عراقيته على شيعيته، من غير أن ينجح تماما في ظل غموض الموقف العالمي من مصير النظام الحاكم في طهران.

فما دام النظام الإيراني قادرا على فرض هيمنته على القرار السياسي في العراق فإن الغلبة ستكون للميليشيات. وهو ما يعني أن لا مقتدى الصدر، ولا سواه من سدنة الحكم في العراق، سيكون قادرا على التصدي للميليشيات، إلا إذا قررت الولايات المتحدة أن تنهي زمن الهيمنة الإيرانية في العراق.