سرعان ما تبدّدت موجة التفاؤل حول ولادة وشيكة للحكومة بعدما تبيّن أنّها لا ترتكز فعلياً على معطيات حاسمة. وصحيح أنّ بعض التقدّم أُحرز، إلّا أنّ العقَد الأساسية ما تزال موجودة، وأبرزُها على الإطلاق العقدتان المسيحية والدرزية. لكن قبل الغوص في تفاصيل العقبات التي تحول دون ولادة الحكومة من الزاوية اللبنانية، لا بدّ مِن الإشارة إلى تطوّرات أكثر إيجابية لناحية المناخ الخارجي.
 

خلال الأيام الماضية بدت الديبلوماسية الأميركية مهتمّة بضرورة إزالة العوائق الخارجية أمام ولادة الحكومة. ومن هذا المنطلق تابعت السفارة الاميركية في بيروت آخر المستجدّات الحكومية. لكن اللافت أنّ الموقف الاميركي الذي شجّع الاطراف في لبنان على ولادة سريعة للحكومة لم تكن لديه «محاذير» كما كان يحصل سابقاً خلال محطات مشابهة، ربّما لإدراك واشنطن أنّ الخطوط الحمر التي وضَعتها يجري العمل بها، مِثل عدم إسناد أيّ حقيبة سيادة أو حسّاسة لـ»حزب الله».


لكنّ واشنطن لا تُحبّذ إطالة الوقت كثيراً قبل إعلان الحكومة لسببين أساسيين:


الاوّل يتعلق بتمسّكِها بالاستقرار في لبنان. فالفراغ الحكومي قد يؤدّي الى فراغات ومطبّات وسط منطقة ملتهبة، والتأخّر في التشكيل يعني تأخّراً في معالجة الوضع المالي الذي بات خطيراً ويهدّد بانهيار ليس ببعيد، وبالتالي ضرب الاستقرارِ اللبناني في الصميم.


والثاني، يتعلق باستعجال واشنطن عقدَ طاولةِ الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية، وهو ما يبدو ملِحّاً وفق الظروف التي تجتازها المنطقة.


وفق هذه الصورة تردَّد أنّ الديبلوماسية الاميركية وزّعت نصائحَها حيث يجب لإزالة أيّ عوائق خارجية أمام ولادة الحكومة.


وفي الإطار عينه تحرّكت باريس أيضاً، وقيل إنّ مسؤولين فرنسيين تواصلوا مع الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل خلال وجودهما في العاصمة الفرنسية للمساهمة في إزالة العراقيل الخارجية وفصلِها عن الملف الحكومي.


وجاءت زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا مركيل إلى بيروت والتي كانت مقرّرة منذ مدة بعيدة، لتؤكّد الاهتمام الدولي بالوضع الاقتصادي اللبناني المقلِق، مع الإشارة إلى عدم تطرّقِها لا من قريب ولا من بعيد لـ»حزب الله». وهي أبدت تشجيعها للتعاون الاقتصادي اللبناني - الالماني خصوصاً في المجالات التي ورَدت في مؤتمر»سيدر» في باريس، وبدت متفهّمةً لمشكلة النازحين السوريين في لبنان ولكن بعد الحلّ السياسي في سوريا، وإنّ ألمانيا ستعمل لمساعدة لبنان لتمكينِه من تجاوزِ التحدّيات الناجمة عن احتضانه للنازحين. وفي هذا الكلام شيء من التطمين الاقتصادي وبعض الغموض حيال أزمة النازحين.


أمّا على مستوى الحركة الداخلية في لبنان، فإنّ التفسيرات تعدّدت حول موجة التفاؤل إثر كلام الرئيس الحريري بعد زيارته قصرَ بعبدا.


البعض رَبطه بنجاح واشنطن وباريس بفصل التأثير الخارجي عن ملف تشكيل الحكومة، وفريق ثانٍ رأى فيه إشارةً واضحة لحصول تقدّمٍ على صعيد حلّ العقَد، وأنّ تراجُع التفاؤل لاحقاً سببُه تعقيدات الأمتار الأخيرة ليس إلّا.


وفريق ثالث اعتبَر أنّ كلّ الكلام الإيجابي الذي ظهر كان مخادعاً ولا يرتكز على أيّ انفراج ولو جزئي لا داخلياً ولا خارجياً، وأنّ الحريري قصَد من كلامه رميَ الكرةِ في ملعب رئيس الجمهورية وتحميله المسؤولية لا أكثر ولا أقلّ.


ووفق هذا الفريق والذي كان ينتمي إلى الثامن من آذار، فإنّ النوايا الجدّية لم تظهر بعد، بخلافِ كلّ ما يشاع، وإنّ رئيس الجمهورية مستاء من التعاطي الحاصل، معتبراً أنّ هناك من يستهدفه ويستهدف دورَه أكثر بكثير من استهداف «حزب الله» كما يجري التبرير بصوت خافت.


ولكن أياً يكن التفسير، هناك عقدتان أساسيتان ما تزالان من دون حلول. الأولى وهي درزية - درزية مع تمسّكِ وليد جنبلاط بشكل حاسم ونهائي بالمقاعد الوزارية الدرزية الثلاثة. وقد أبلغ الوزيران السابقان غازي العريضي ووائل ابو فاعور هذا الموقف مجدّداً للرئيس نبيه بري خلال زيارتهما الأخيرة الى عين التينة، وهو ما يعني وجوبَ البدء بالتفكير بمخرج لطلال أرسلان، والعقدة الثانية بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية».


ففيما كانت أوساط «القوات» تبدي تفاؤلها باقتراب الحلّ، بدا أنّ ثمّة سوء فهم حصلَ، إذ إنّها اعتبَرت أنّها حصلت على أربعة وزراء وراحت تطالب بالخامس على قاعدة أربعة حقائب زائداً وزير دولة، وسط تأييد الحريري.


في المقابل بدا رئيس الجمهورية ومعه الوزير باسيل متمسّكَين بثلاثة وزراء لـ»لقوات» واحد منهم وزير دولة، وهي حصّة غير قابلة للنقاش.


ووفقَ العاملين على هذا الخط، فإنّ «القوات» طرَحت الحد الأقصى أي خمسة وزراء من ضِمنها حقيبة سيادية أو نيابة رئاسة الحكومة لتضمنَ حصّة الأربعة وزراء ولو كان بينها وزارة دولة.


لكن في المقلب الآخر لا تبدو الأمور قابلة حتى الآن لرفعِ حصّة «القوات» لأكثر من ثلاثة وزراء مِن ضِمنهم وزير دولة.


وهناك جانب آخر للتعقيدات لا يُطرَح علناً ولا حتى في المفاوضات الصعبة، ويتعلق بالأغلبية الوزارية في حال طرِح ملفٌّ ما على التصويت.


صحيح أنّ السلوك المتفَق عليه ضِمناً والذي ساد الحكوماتِ السابقة طوال السنوات الماضية كان يرتكز على القرارات التوافقية وعدمِ اللجوء إلى التصويت، وصحيح أنه في بعض الأحيان لوَّح البعض أو ربّما هدّد بطرح التصويت على ملفّات معيّنة مِثل بواخر الكهرباء، إلّا أنّ ذلك لم يحصل أبداً.


لكنّ ملفات كثيرة ستطرحها الحكومة المقبلة، وصيغ التعاون بين القوى السياسية «مطاطة» وقابلة لأن تأخذ في كلّ مرّةٍ شكلاً مختلفاً عن سابقاتها، كما أنّ الانقسام العمودي زال، والتفاهمات تأخذ أشكالاً متعددة، ما يعني أنه قد يكون للبعض حسابات تصل إلى حدود ضمان التصويت في حال طرح ملفّ ما، وهو قد يكون العقدة الحقيقية التي تقف خلف مسألة الأحجام واحتساب الحصص الوزارية.