تستمهل صيدا القديمة ليالي رمضان التي تنقضي. إنه شهر الخير، وأكثر، على أزقّتها وساحاتها ومقاهيها ومحالها التي تنتظره كل عام ليبثّ فيها الحياة. الأزقة والبيوت والزوايا والمساجد الأثرية تجعل من صيدا القديمة ورمضان توأمين منسجمين، يجذبان الزوار. أكثر ما ينتعش، المقاهي التي مرّ على بعضها أكثر من 200 عام. كانت أكثر من 120 ولم يبق منها سوى 12

 

في ساحة باب السراي، في صيدا القديمة، ينجذب المارّة إلى الحائط الرئيس في المقهى القديم الذي تظلله الأشجار. فوق حجارته الرملية، عُلّقت براويز صور، معظمها بالأبيض والأسود، للمسجد الأقصى ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وفيروز وعبد الحليم حافظ... يعلوها عود يقول مشغّل المقهى محمد سلوم إن فريد الأطرش أهداه لوالده الذي كان يهوى الفن وسافر مراراً إلى مصر للقاء الفنانين.


كراسي الخيزران والطاولات والثريات الخشبية ونراجيل التنباك والفوانيس، تشكل مع المعرض المفتوح على الحائط باقة مكتملة من الماضي الجميل. يقول سلوم إن الطابع التراثي للمقهى يجذب السياح على مدار العام. أما في رمضان، فتتضاعف الحركة حيث يقبل المئات من أهالي صيدا والجوار والمناطق. المقهى المقابل للساحة الرئيسية في صيدا القديمة، شيّد في الأساس مبنى لسراي الأمير فخر الدين الثاني. ثم تحول إلى إسطبل للخيول وخان لتخزين القمح والشعير من جبل حوران، في وقت كان فيه التجار يتبادلون البضائع والمواشي في الساحة المقابلة. عام 1914، صار الخان مقهى، شغّله محيي الدين كشتبان قبل أن ينتقل إلى آل سوسان عام 1946. بين هذا وذاك، شهد زمن العز عندما تحول إلى مقر للحاكم العسكري في زمن الانتداب الفرنسي، فضلاً عن استخدامه كمركز للاقتراع في الانتخابات البلدية والنيابية. ومنذ عام 1975، يشغله آل سلوم من النبطية. 

 

يتنقل محمد سلوم بسرعة بين صالة المقهى الداخلية وباحته الخارجية لتلبية طلبات الرواد الذين يتوافدون بعد الإفطار وصلاة التراويح في مسجد المحتسب الأثري المجاور. لعب الورق والنرجيلة والليموناضة والمشروبات الساخنة والسحلب والأطباق الخفيفة للسحور (...) يتناولها الرواد على وقع أنغام أغان طربية. قبل عقود، كانت المقاهي تقدم سهرات الإنشاد وحلقات الذكر ورقص الدراويش وجلسات الحكواتي. يلفت الأستاذ الجامعي طالب قره أحمد الى أن مقاهي صيدا القديمة في باب السراي وضهر المير والمصلبية هي التي عرفت الناس إلى الحكايا والدمى المتحركة وخيال الظل (حيث يتحرك أشخاص أو دمى خلف شرشف أبيض). وفي بحث لطلال مجذوب، يتبين أن أول حكواتي في المدينة كان محمد الشقلي الحلبي الذي وفد إليها عام 1837. تأثر به أفراد من آل السروجي، أبرزهم عبد الرحمن وإبراهيم اللذان تبدلت كنيتهما من السروجي إلى الحكواتي في سجلات القيد. ومن الحكواتيين الذين ذاع صيتهم أبو أسعد الذي عرف بحكواتي الحية، ومحمد المياسة والفلسطيني النجمي. الأخير قدم عروضه في مقهى البابا في ساحة ضهر المير. وكانت له طريقة خاصة في السرد، كما كان يجلس فوق طاولتين ويقرأ من كتاب ألف ليلة وليلة.


تراجع عدد المقاهي من 120 الى 12 وبعضها مرّ عليه أكثر من 200 عام

 

اتسعت المقاهي التي كانت عبارة عن غرف ضيقة وطالت الحداثة أدواتها. القهوة التي كانت تُعدّ على الجمر أو الرمل وتقدم بركوة نحاسية، صار البعض يُعدّها بآلة الكبس. غاب الفقراء والعمال الذين كانوا ربع أو ثلث أو نصف فنجان قهوة، حيث كان الفنجان الصغير أحياناً يتقاسمه ثلاثة أشخاص. وتطورت لائحة المشروبات التي كانت محصورة بالقهوة والشاي والأينر (القرفة) والسحلب والأعشاب. 


في زمن العثمانيين، نظمت السلطات وضع المقاهي، فأجبرتها مع الدكاكين والحلاقين وباعة الشاي على الإقفال في العاشرة ليلاً شتاءً وفي الحادية عشرة ليلاً في الصيف. في رمضان الحديث، أوقات السهر مفتوحة في المقاهي التي تجاور البيوت، إذ يحاول أصحابها الاستفادة من الموسم قبل أن تتقلص حركة الزوار إلى ما دون النصف بقية أيام السنة.