شهدت عشية الانتخابات النيابية، حراكاً بين بعبدا وحارة حريك لتفعيل بُعدٍ جديد في «تفاهم مار مخايل» هو البعد الداخلي الإصلاحي. كل المراجعات التي جرت لتقويم تجربة هذا التفاهم، دلّت على أنّ تطبيقاتِ الشقّ الخارجي منه والمتعلّق بالتفاهم الاستراتيجي الخاص بقضايا النزاع في المنطقة وحفظ المقاومة، كان جيداً، أما الشقّ الداخلي منه والمتعلّق بتدشين سياسات مشترَكة بين الطرفين، تخدم مشروع الإصلاح في الدولة والبلد، فكانت نتيجته «صفر».
 

العلاقة بين قواعد الحزب وقواعد «التيار الوطني الحر» ظلّت متباعدة، أو اقلّه لم تشهد تفاعلاً إندماجياً، حتى درج القول أنّ «تفاهم مار مخايل» هو توافق فوقي، وحصراً بين عون ونصرالله، ولم تصل مفاعيله بالدرجة المطلوبة الى قواعد الطرفين الاجتماعية.


هناك في أوساط «حزب الله» مَن يعتبر أنّ أمينه العام السيد حسن نصرالله يغامر من خلال تسليط الضوء على دوره كمايسترو أساسي في ترتيب موجبات النجاح داخلياً في المرحلة السياسية المقبلة، وذلك على مستوى مواجهة ملفّين أساسيَّين: الفساد والاقتصاد. فـ«القمّة» التي عقدها نصرالله مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ، ومن ثمّ اللقاء الطويل الذي عقده مع «رئيس التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل، و«التواصل المكثّف عبر قناة مكلّفة منه» مع الوزير وليد جنبلاط، كلها تحرّكات تُظهر للمراقبين أنّ نصرالله يضع ثقله السياسي وصدقيّته على محكّ مواجهة ملفات داخلية ليس مضموناً إنتاج نجاحات حيالها.


واضح أنّ نصرالله يريد ثنائية إصلاحية مع العهد وحتى مع اوسع تركيبة حزيية لبنانية تتشكّل منها الحكومة، حتى يتوزّع «حِمل» ورشة الإصلاح على الجميع. وضمناً يريد ثنائية مع «التيار الوطني الحر»، وذلك على أساس تفعيل البُعد الداخلي لـ«تفاهم مار مخايل»، وتدشين ما يمكن تسميته «تفاهم مار مخايل 2» الذي يرسي شراكة بين الحزب و«التيار» في مواجهة الأزمات الداخلية، ما يعني إنهاء مرحلة الإكتفاء بحصر مفاعيل «مار مخايل» بالموضوع الاستراتيجي الخارجي.

 

ثمّة مصلحة لنصرالله في السير مع العهد و«التيار البرتقالي» في مشوار اصلاحي داخلي، لأنّ الجبهة المفتوحة حالياً ضد الحزب تريد ضربَ علاقته بقاعدته الاجتماعية من بوابة الاقتصاد، وليس من بوابة فتح جبهة عسكريّة ضده، وأيضاً هناك مصلحة للرئيس ميشال عون و«تياره البرتقالي» في السير بمشوار الإصلاح مدعوماً بثقل «حزب الله» الداخلي، لأنّ العهد معنيٌّ بتسجيل نجاح في ملفَّي إنقاذ الاقتصاد وكبح الفساد في المرحلة المتبقّية له.


هناك تسريباتٌ عن حوار يجري داخل الحزب، حول المقاربة الأنسب التي يجب اتّباعُها في شأن الموضوع الداخلي الذي كان الحزب طوال الفترة الماضية قاربه انطلاقاً من رؤية تعطي أولوية لانعكاسات المعطى الخارجي عليه. وبحسب هذه التسريبات، يوجد داخل هذا الحوار «تهيّب» من إنخراط الحزب في معركة مكافحة الفساد والإصلاح، حيث يبرز رأي يقول إنّ الأسهل على الحزب خوض عشرين معركة عسكرية ضد «داعش» من خوض جولة سياسية واحدة ضد منظومة الفساد اللبناني. فيما الرأي الذي يقوده نصرالله يعتبر أنّ آثارَ الفساد على قاعدة الحزب الإجتماعية صارت لها منزلة نتائج حرب عسكرية ضد الحزب.


ثمة مغامرة بالجزم في ماهية الأفكار التي توصّل اليها الحزب حول طريقة مواجهة الفساد وبالأساليب العمَلية التي سيترجم بها تطبيق قراره بتعميق إهتمامه بالوضع الداخلي، ولكنّ معلومات منسوبة الى جهات عارفة بتفكير الحزب تؤشر الى معطيات طارئة على هذا الصعيد، يمكن تلخصيها بالآتي:


ـ أولاً، إتّخذ الحزب منذ فترة قراراً بأنه بعد انتهاء الانتخابات النيابية سيركّز سبعين بالمئة من جهده العام على الساحة الداخلية اللبنانية بعد أن كانت النسبة الأعلى من هذا الجهد مركّزة خلال الفترة الماضية على دعم مشاركته في الساحة السورية وساحات أخرى. و يعني ذلك أنّ إهتمامات الحزب بدعم جهده في سوريا، ستتضاءل نسبتُها بمقدار كبير وستتحوّل هذه النسبة العالية لمصلحة دعم إهتمامه بالوضع الداخلي اللبناني الذي بات يتطلّب تحصيناً بحجم الردّ على أساليب الحرب الناعمة التي تستهدفه عبر البوابات الاجتماعية والاقتصادية الخ..


ـ ثانياً، يوجد لدى الحزب، بحسب المعلومات المتسرّبة من حوارته الداخلية، تصوّرات جذرية لإنتاج حلول لأزمات البلد المستعصية على مستوى كبح إستمرار الهدر العام وإنقاذ الإقتصاد وإطلاق مسيرة إصلاحية. و من بين هذه التصوّرات الدفع بفكرة إنشاء وزارة التخطيط التي يكون لها دور مركزي في تخطيط مشاريع الإنماء، وتوزيعها على الوزارات بما يتناسب مع اهداف التنمية الشاملة. ولكنّ معلوماتٍ تذهب الى أبعد من ذلك، حينما تقول إنّ الحزب، وفق تصوّراته الجديدة، لم يعد منغلقاً في تفكيره تجاه فكرة تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة وإنشاء مجالس المحافظات المنتخبة التي تُعنى بشؤون تنمية مناطقها. وقد يكون الحزب بدأ يجد في هذه الفكرة حلّاً لمشكلة أزمات التنمية المستعصية في مناطقه التي برزت بنحوٍ حادّ في وجهه خلال الانتخابات النيابية الاخيرة. والى هذين الأمرين سيستمرّ الحزب في اعتبار بقاء النسبية وتعميقها شرطاً لقبوله بأيِّ تعديل لقانون الانتخابي الحالي.


والأمر الواضح حتى الآن يفيد أنّ الحزب سيقارب طرح أفكاره الإصلاحية على ساحة الفعل السياسي الداخلي خلال المرحلة المقبلة، بأسلوب التمرحل. في وقت يتحدّث سياق المعلومات عينه عن وجود اكثر من تصوّر حول إنشاء وزارة التخطيط، أو التصميم. فالوزير جبران باسيل يميل الى إنشاء هذه الوزارة تحت مسمى «وزارة التخطيط والتعاون الدولي»، وفي مقابله هناك مَن يقترح إبقاء وزارة التخطيط مستقلّة، فيما يتمّ تعديلُ اسم وزارة الخارجية لتصبح «وزارة الخارجية والمغتربين والتعاون الدولي».

 

والمقصود بـ«التعاون الدولي» هو إنشاء وحدة رسمية تقوم برصد الفرص الموجودة عبر العالم لدعم لبنان اقتصادياً، وذلك عبر جمع «داتا» معلومات عن هذه الجهات وشروطها، ما يسمح برسم خطط تحرّك تجاهها والإفادة منها بنحو مدروس. وفي موضوع إنشاء مجالس المحافظات، هناك افكار من نوع إعادة تحديد المحافظات التي أصبح عددها بعد «إتفاق الطائف» ثمانية بدلاً من ستة. وجدير بالذكر في هذا المجال، أنّ في تسعينات القرن الماضي كان تمّ البحث في اقتراحٍ يتحدّث عن تقسيمٍ طوليٍّ جديد للمحافظات بحيث يكون لكل محافظة منفذ على البحر ما يسمح لها بإنشاء محطات تحويل كهرباء ومشاريع خدماتية أساسية أُخرى.


خلاصة القول أنّ في داخل «حزب الله» هناك مَن يرى أنّ نصرالله اتّخذ قراره الحاسم بإطلاق مرحلة الإهتمام بالوضع الداخلي اللبناني، ما يضعه شخصياً أمام إمتحان النجاح في هذه المهمة، خصوصاً وأنّ حراكه ولقاءاته السياسية الداخلية الأخيرة، ووعوده بالإنماء والإصلاح لقاعدته الاجتماعية خلال الانتخابات، تسلّط الضوء عليه بصفته أمام محك، تحمل جزءاً كبيراً من النجاح أو الفشل الذي سيحدث لمشروع الإصلاح في المرحلة المقبلة.