من سيحكم العراق وإلى أي وجهة سيوجه علاقاته الخارجية، والساحة العراقية مدار معركة كبيرة على النفوذ يُرجع متابعون للشأن العراقي المدى غير المسبوق الذي بلغته شدّة التنافس في الانتخابات العراقية التي ستجري نهاية الأسبوع القادم، بقيمة الرهان المتعلّق بها، ليس فقط محلّيا ولكن إقليميا ودوليا. وعلى صعيد داخلي تساور بعض العراقيين آمال في حدوث تغيير ينقذ البلاد من أوضاعها الصعبة على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ويكبح جماح ظاهرة الفساد المتغوّلة والمتغلغلة في جميع مفاصل الدولة. أما على صعيد خارجي، فإنّ السؤال بشأن من ستفرزهم صناديق الاقتراع حكّاما للبلد في المرحلة القادمة، هو سؤال عن الوجهة التي سيسلكها العراق في سياساته الخارجية وعلاقاته الدولية، وخصوصا الإقليمية. والعراق مدار معركة كبيرة على النفوذ، أطرافها الأساسية، إيران والولايات المتحدة، ودول المحيط العربي. ومع بروز ملامح استراتيجية شاملة تقودها الولايات المتحدة لتطويق النفوذ الإيراني في المنطقة ككلّ، يغدو الحفاظ على النفوذ في العراق قضيّة “حياة أو موت” بالنسبة لطهران. وليس مردّ ذلك لحجم العراق ووزنه وضخامة مقدّراته الطبيعية والبشرية فحسب، ولكن أيضا لموقعه الذي يؤمّن لإيران التواصل مع ساحتي نفوذ أخريين بالغتي الأهمية هما كلّ من سوريا ولبنان. ولا يرغب النظام الإيراني في رؤية ساسة عراقيين على رأس السلطة بعد الانتخابات القادمة، يحملون أفكارا “استقلالية” ويدفعون باتجاه تغيير ما درج عليه البلد من ارتباط شديد بإيران منذ سنة 2003. ولا يرغب بدرجة أشدّ في قيادة عراقية تعيد تقوية الروابط مع بلدان ظهرت خلال الفترة الأخيرة متحفّزة لتقوية علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العراق، وهو ما شرعت فيه عمليا المملكة العربية السعودية، التي هي أيضا جزء أساسي في استراتيجيا تطويق النفوذ الإيراني التي تقودها الولايات المتّحدة. ومن هذا المنظور فإنّ رئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي -رغم أنّه أحد أنباء الأسرة السياسية الشيعية، القريبة من طهران- لا يمثّل النموذج الأمثل لقيادة العراق في المرحلة القادمة التي ستكون مرحلة معركة إيران الكبرى ضدّ خصومها في الإقليم والعالم. ما تحتاجه إيران في مرحلة المعركة الشرسة ضدّ خصومها ومنافسيها الإقليميين والدوليين، ليس قادة عراقيين يلعبون لعبة الاعتدال والتوازن في العلاقات الإقليمية والدولية للعراق، على أساس من استقلالية القرار وتبادل المصالح. ولكنّ ما تحتاجه حلفاء صريحين لها مرتبطين بها سياسيا ومذهبيا ومدافعين عن مصالحها. وهو ما يتوفر في مرشّحي الحشد الشعبي للانتخابات القادمة بقيادة هادي العامري. فما تحتاجه إيران في هذه المرحلة ليس رجلا يلعب لعبة الاعتدال والتوازن في العلاقات الإقليمية والدولية للعراق، على أساس قدر من استقلالية القرار وتبادل المصالح مع الدول (وهو الطرح الذي روّج له العبادي وحاول الدفع باتجاهه خلال سنوات حكمه)، لكنّها تحتاج حلفاء صريحين لها، مرتبطين بها سياسيا ومذهبيا ومدافعين عن مصالحها، ومنحازين إليها ضدّ خصومها ومنافسيها. وتجتمع هذه الشروط في قادة الحشد الشعبي المرشحّين للانتخابات القادمة ضمن “تحالف الفتح” بقيادة زعيم منظّمة بدر هادي العامري شديد الولاء لإيران والذي سبق أن قاتل تحت رايتها في حرب الثماني سنوات ضدّ العراق. وليس حيدر العبادي الذي يسعى للحصول على ولاية ثانية على رأس الحكومة، بالمنافس الهيّن في الانتخابات إذ تظهره بعض استطلاعات الرأي في مقدّمة المرشّحين للفوز بها. ويمتلك العبادي قدرا من الشعبية بين الجمهور الشيعي، وباقي المكوّنات العراقية، مستندا للنّصر الذي قاده في الحرب على تنظيم داعش، وما أظهره من عزم على محاربة الفساد، وتخفيض منسوب التوتّر الطائفي الذي بلغ مداه في فترة حكم سلفه على رأس الحكومة نوري المالكي. لكنّ لعبة الانتخابات في العراق أكثر تعقيدا من ذلك، فللمال السياسي دور في كسبها، وكذلك للسلاح دور، كما أنّ محاذير التزوير تظلّ قائمة رغم كل الإجراءات المتّخذة. أما عملية تشكيل الحكومة واختيار رئيس لها فأكثر تعقيـدا من الانتخابات بحدّ ذاتها إذ تتطلّب توافقا وتكتّلا بين الأطراف الفائزة، ووفـاقا بين كل من الـولايات المتحدة وإيـران، الأمـر الـذي سيكـون أصعـب هذه المـرّة مـن الدورات الانتخـابية الثـلاث السابقة. وتوّجه عدّة أطراف مشاركة في الانتخابات، أو مراقبة لسير الحملة الانتخابية، الاتهامات لتحالف العامري باستخدام سلاح الحشد الشعبي لترهيب الناخبين وإجبارهم على التصويت لمرشّحي التحالف، فيما ينتقد آخرون استئثار طرف سياسي باستخدام اسم الحشد، وهو ما يعلنه بشكل متكرّر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي ذهب حدّ “الإفتاء” بعدم جواز ذلك شرعا، متهّما تحالف الفتـح بــ“عصيان” تعـاليم المـرجعية الشيعيـة. والحشد الشعبي عبارة عن قوّة رديفة تشكّلت من عشرات الآلاف من المتطوّعين الشيعة في أغلبهم، استجابة لنداء أطلقته مرجعية النجف الشيعية بقيادة علي السيستاني عُرفت بفتوى “الجهاد الكفائي”، إشارة إلى مواجهة تنظيم داعش الذي غزا البلد سنة 2014 في ظلّ انهيار صادم للقوات النظامية العراقية. وكان للحشد دور مهمّ في التصدّي لداعش وتحقيق نصر عسكري عليه، وخلال الحرب استثمرت إيران في هذا الهيكل شبه العسكري ودعّمته بالسلاح والاستشارات العسكرية، ونجحت في تحويله إلى قوّة للسيطرة الميدانية في العراق داعمة لنفوذها السياسي في البلاد. وبحسب مراقبين فإنّ الحشد بقوّته العسكرية وتعبئته العقائدية الطائفية، وشعبيته التي اكتسبها في الأوساط الشيعية بفعل دوره في مواجهة داعش، أصبح قابلا للتحوّل إلى استثمار سياسي طويل الأجل لإيران، وهو ما قد تكون بصدد الاشتغال عليه عبر مساعدته إلى الوصول إلى سدّة الحكم ما يضمن لها الإبقاء على العراق درعا لها وقاعدة متقدّمة في “المعركة” الشرسة المقبلة ضدّ الولايات المتحدة وبمشاركة حلفاء واشنطن في المنطقة والعالم.