موسكو تلوح بأنها لم تعد مهتمة بالدفاع عن سوريا الروسية. لكنها من خلال تلويحها باحتمالات التقسيم، تبلغ من يهمه الأمر أنها معنية بالدفاع عن حصتها الوازنة في هذا البلد
 

اضطرت موسكو ربما إلى الالتحاق بخيار دمشق وطهران الدائم بالقفز عن أي مقاربات سياسية للحل في سوريا والذهاب نحو الحل العسكري. وفيما ظهر تباين ظاهري في السابق بين أستانة وسوتشي ومناطق خفض التصعيد من جهة، ومنطق “غروزني” في الغوطة الشرقية بما في ذلك استخدام السلاح الكيمياوي من جهة أخرى، فإن الرئيس فلاديمير بوتين أدرك أن عجالة باتت ضرورية لفرض أمر واقع روسي كاسح بعد أن استنتج استيقاظ المارد الغربي على ما كان سباتا وارتباكا في شأن سوريا خلال الأعوام الماضية.

تكتشف موسكو كل صباح أن نفوذها يتآكل في سوريا على الرغم من الإنجازات العسكرية التي يحققها جيش النظام الذي يوسّع مساحات سيطرته على البلد. انقلب الغرب بشكل سافر على تفاهمات كان أبرمها بوتين مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2015 تمنح موسكو، وحدها، اليد الطولى في تقرير مسار الصراع في سوريا ومصيره النهائي. أظهر الغرب إهمالا سرياليا للكارثة السورية، إلى أن انتقلت إلى قلب أوروبا لجوءا وإرهابا وصعودا مقلقا للتيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف.

يمنّي بشار الأسد النفس بتمديد لسطوته على نظام دمشق. يتيح سقوط الغوطة والمناطق المحيطة بالعاصمة دمشق لرأس النظام الانتشاء بنصر يفترض أن يقود إلى “عودة” سوريا كلها إلى “حضن الوطن”، وفق التعبيرات البليدة المتعارف عليها لدى إعلام دمشق. ومع ذلك ينفث وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلياذات سوداوية تشكك في إمكانية القدرة على المحافظة على وحدة سوريا، معلنا لدمشق وطهران قبل أي جهات أخرى، أن لا نية للولايات المتحدة للانسحاب من سوريا. وفي ذلك أن الروس باتوا يدركون منذ تحرك ثلاثة جيوش غربية كبرى بشكل متناغم عالي المستوى لصبّ جام نيرانها المقذوفة من مقاتلات جوية ومن بوراج وغواصات على أهداف للنظام تحت سمع وبصر وصمت الدفاعات الروسية، أن هذا الغرب عاد ليزمجر بصفته “غربا”، وأنه يفرش طريقه في سوريا بالنار، ويفرض قواعد جديدة للعبة الدولية في هذا البلد.

تعيش سوريا هذه الأيام المرحلة الرمادية قبل الدخول في حقبة التداول النهائي الدولي على شكل ومضمون التسوية. لا يعمل الغرب على إزاحة روسيا عن سوريا كما عمل قبل عقود على إزاحة الاتحاد السوفييتي عن أفغانستان. تعرف موسكو ذلك وتدرك أن الغرب يتحرّى شراكة يفرض داخلها شروطه. لن تستقر موسكو في سوريا دون رعاية أممية يمثل الغرب جلّ أعمدتها. أراد بوتين الإطلالة على العالم من خلال سوريا، كما أطل من خلال أوكرانيا والقرم. لكنه في الوقت عينه يدرك أن سوريا ليست أوكرانيا، وأنه عاجز عن اقتطاع سوريا كما اقتطع القرم.

قد لا يسهل فكّ مفاتيح خطة هذا الغرب الملتبسة في المنطقة عامة، وسوريا خاصة. بوتين قرأ ذلك. اكتشف أن القواعد الأميركية تنبت كالفطر في شرق وشمال وجنوب سوريا، وأن لفرنسا وبريطانيا تواجدا عسكريا يميل إلى التطور على ما توحي مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأن التناغم الأوروبي الأميركي باتجاه إعادة نحت الاتفاق النووي مع إيران بات ناجزا يروم توسيعه ليشمل برنامج الصواريخ الباليستية ونفوذ طهران في المنطقة، وأن الضربة العسكرية على مواقع النظام في سوريا نفذتها واشنطن وباريس ولندن بمباركة غربية شاملة كادت تكون شبه أممية.

تلوّح موسكو بأنها لم تعد مهتمة بالدفاع عن سوريا الروسية. لكنها من خلال تلويحها باحتمالات التقسيم، تبلّغ من يهمه الأمر أنها معنية بالدفاع عن حصتها الوازنة في هذا البلد. وعلى هذا تظهر العلامات الأولى لتصدّع التقاطع الروسي الإيراني التركي الذي أنتح أستانة. تركيا تصفق للضربات العسكرية الغربية، وروسيا تلحّ بالطلب من أنقرة ما سبق أن طلبه الرئيس الإيراني حسن روحاني بشأن ضرورة انسحاب القوات التركية من عفرين وتسليمها لقوات النظام السوري. يستنتج بوتين بسهولة أن حليفه رجب طيب أردوغان يملك من المعطيات ما يجعله يعيد الانعطاف تجاه واشنطن وشركائها الأوروبيين.

لا أحد يريد تقسيم سوريا. تلوح في المنطقة “ثورة” في إنتاج الطاقة شرق البحر المتوسط على نحو يدفع أصحاب المصالح الكبار للتمسك بوحدة دول المنطقة، والسعي إلى استقرار يتيح فتح أسواق الغاز الواعدة. سبق للخرائط أن انبسطت تنذر بتقسيم العراق وقبله لبنان فلم يحصل ذلك. سبق لواشنطن أن حذّرت من قيام دول متعددة داخل سوريا، وسبق لموسكو أن لمّحت إلى فيدرالية تنظم العيش داخل حدود البلد. وعلى أي حال فإن مصير سوريا موحدّة أو مقسّمة يحتاج إلى صفقة دولية. فإما يأتي التقسيم المزعوم سلما وفق ما اعتمد في تشيكوسلوفاكيا، وإما حربا دموية ضروسا وفق ما انتهت إليه يوغسلافيا.

تمثل فتوى لافروف بشأن التقسيم دعوة روسية للاتفاق. تعطي واشنطن التي استقبلت ماكرون وتستقبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل الدلالات الأولى للمرحلة المقبلة. الغرب ذاهب إلى الضغط على إيران لإنقاذ الاتفاق النووي، وأن لروسيا دورا أساسيا في هذا السياق إذا ما أرادت أن تكون في صلب التفاهمات الدولية التي تجهد لإطفاء الحرائق في اليمن وليبيا وسوريا. تلمح موسكو بتقسيم في سوريا بسبب الغموض الذي يمارسه الغرب في الكشف عن حقيقة أجندته في هذا البلد. لن يتخلى بوتين عن بقاء بشار الأسد، ولن يتحلّل من تحالفه مع طهران دون أن يعرف فوائد ذلك وبدائله لتعظيم مصالح روسيا في العالم أجمع. لكنه في الوقت عينه لا يملك إمكانات الاستمرار في الاستثمار عسكريا داخل ميدان يعرف أن ميزان الربح والخسارة فيه تحدده أروقة السلطة في واشنطن. فحين بدا أن واشنطن متضررة من طموحات موسكو في سوريا ارتكبت طائرات التحالف مجزرة في فبراير الماضي ضد مرتزقة روس هم في الحقيقة جنود غير رسميين من جنود سيد الكرملين.

ستتكاثر المواقف في كافة العواصم الغربية قبل أن يعلن للعالم موعد القمة التي ستجمع بوتين وترامب. ستتراكم يوما بعد آخر معطيات ترسم خارطة طريق تحدد معالم أي اتفاق محتمل بين واشنطن وموسكو. وقد يخال للمراقب أيضا أن الجهد العسكري الذي تشرف عليه روسيا حول دمشق، وربما في مناطق أخرى لاحقا، لا يجري إلا وفق تفاهمات مع الغرب تروم وضع قواعد ميدانية لما يمكن أن يبني تسوية في سوريا. يعلن ماكرون أن لأوروبا دورا مقبلا لإعمار سوريا، ويعلن اجتماع وزراء خارجية الدول السبع الكبرى في تورنتو أن لا إعمار في سوريا قبل تسوية تفرض مرحلة انتقالية.

على هذا يقلّب بوتين حسابات الربح والخسارة داخل عالم تسووي يدفع باتجاه ما مع إيران وتفاهم ما مع كوريا الشمالية. لا يحب الرجل التفاهمات، فجلّ إنجازاته قطفت ثماره على حافة الصدامات الخطيرة.