من «لوائح العهد» الى توجيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رسالة الى اللبنانيين المقيمين والمنتشرين مشدداً فيها على «أهمية المشاركة في العملية الانتخابية في ظل القانون الانتخابي الجديد»، لا يمكن لعاقل ان يصدّق انّ السلطة تقف على الحياد إزاء الاستحقاق النيابي، وانّ رئاستي الجمهورية والحكومة تحديداً لا تتدخلان فيه لترجيح كفّة الجهتين السياسيتين اللتين يتزعمان (تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر») على كفّة بقية الأفرقاء السياسيين
 

وفي الأساس لا يمكن أحد ان يصدّق انّ السلطة مُحايدة في هذا الاستحقاق النيابي، طالما انّ رئيس الحكومة سعد الحريري وغالبية الوزراء مرشحون للإنتخابات، وفي هذه الحال لا يمكن لعاقل ان يصدّق انّ هؤلاء جميعاً لا يستخدمون مواقعهم وسلطاتها والصلاحيات لخدمة مصالحهم الانتخابية، وكذلك مصالح القوى السياسية والتي ينتمون اليها ويمثلونها في الحكومة.

فمجرد أن يسمّي رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل وغيره من «التياريين» لوائح التيار الانتخابية بأنها «لوائح العهد»، والمقصود بتعبير «العهد» هنا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، يعني انّ هذا العهد متدخّل، حتى لا نقول انه متورّط، او يورّطونه، في الانتخابات التي يفترض ان يكون راعياً لها ولا مرشحين له فيها، لأنّ الدستور لا يُجيز له امتلاك كتلة نيابية في مجلس النواب، ولا أن يكون طرفاً الى جانب بقية الاطراف في اللعبة السياسية داخل المؤسسات الدستورية وخارجها.

قبل «اتفاق الطائف» عام 1989 والدستور الذي انبثق منه عام 1990 كان يحقّ لرئيس الجمهورية ان يمتلك تكتلاً نيابياً كبيراً كان أو متوسطاً، أو صغيراً، لأنّ رئيس الجمهورية بموجب دستور ما قبل «الطائف» كان رئيس السلطة التنفيذية فعلياً، بل كان السلطة التنفيذية كلها، وأكثر من ذلك كان الآمر الناهي في كل شؤون البلاد وشجونها، وكان هو من يختار رئيس الحكومة والوزراء، وكذلك يختار رئيس مجلس النواب، وحتى النواب أنفسهم بفِعل إمساكه بكل السلطات حتى الامنية والعسكرية اذا لزم الأمر لتنفيذ اي خطوة سياسية.

ولكن بعد «الطائف» الذي نقل صلاحيات السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً، والذي حسب المادة 53 من الدستور «یترأس رئیس الجمهوریة مجلس الوزراء عندما یشاء من دون أن یُشارك في التصویت»، لم يَعد هذا الرئيس طرفاً في اللعبة السياسية الداخلية ولا على مستوى اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء، فالمادة 49 من الدستور تقول: «رئیس الجمهوریة هو رئیس الدولة ورمز وحدة الوطن. یسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضیه وفقاً لأحكام الدستور. یرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء».

وإذا كان لا يحقّ لرئيس الجمهورية التدخّل في الانتخابات والّا تكون له كتلة نيابية في مجلس النواب وكتلة وزارية في الحكومة، وانّ عليه أن يتّخذ موقع الحَكَم (بفتح الحاء والكاف) بين الجميع بحيث لا ينحاز في الموقف من هذه القضية او تلك الى جانب فريق ضد آخر، فإنّ دستور «الطائف» في المقابل لم يَنط السلطة التنفيذية برئيس الحكومة، اي رئيس مجلس الوزراء بمفرده فقط، وإنما أناطها بمجلس الوزراء مجتمعاً.

وبالتالي، هنالك ممنوعات ينبغي على رئيس الحكومة التنبّه اليها، وأبرزها عدم استخدام السلطة وصرف النفوذ في الانتخابات وفي أي استحقاق آخر خِدمة لمصالح خاصة سياسية او لمصلحة فريق سياسي ضد آخر.

وفي هذا المجال يأخذ كثيرون على الحريري أنه يستخدم في جولاته الانتخابية ممتلكات عامة لا يحق له استخدامها لغايات انتخابية (أو حتى لأيّ مصلحة غير مصلحة الدولة)، لأنها تلغي مبدأ المساواة في تكافؤ الفرص بين جميع المرشحين للإنتخابات وهو منهم، فضلاً عن انّ عليه أن يكون على مسافة واحة من الجميع بحيث يفصل بين كونه رئيساً للحكومة التي ستُشرف على الانتخابات وبين كونه مرشحاً للنيابة ورئيساً لتيار سياسي هو تيار «المستقبل» الذي يخوض معارك انتخابية ضد خصومه في كل الدوائر الانتخابية.

واكثر من ذلك، فإنّ مبدأ المساواة في تكافؤ الفرص بين المرشحين ليس موجوداً أصلاً منذ بداية الموسم الانتخابي (كما في مواسم كثيرة سابقة) لأنّ نصف الوزراء في الحكومة مرشحون للإنتخابات ما يعطيهم أفضلية، بل أرجحية، عن بقية المرشحين، فما تُطاوله أيديهم من خدمات يمكن تقديمها للناخبين بغية استمالتهم لكي ينتخبوهم، علماً أنّ السلطة لو كانت تتوخى فعلاً الحياد في الانتخابات لكان الحريري قدّم استقالة حكومته عند اقرار قانون الانتخاب قبل بضعة أشهر فاسحاً المجال لتأليف حكومة جديدة موقتة سياسية أو «تكنوقراطية» يكون رئيسها وأعضاؤها غير مرشحين للإنتخابات.

ولذلك، يعتقد كثيرون انّ الانتخابات بمجرياتها والنتائج التي ستسفر عنها ستشهد عدداً كبيراً من الطعون امام المجلس الدستوري، الذي يستعجل البعض الآن تغييره في هذه العجالة وتعيين مجلس جديد يكون «تحت السيطرة» بغية إسقاط تلك الطعون التي اذا ظلّت الامور الانتخابية على ما تشهده من انتهاكات الآن وما هو متوقع ان يحصل منها يوم الانتخاب، فإنّ عدداً لا بأس به من المرشحين الذين سيفوزون أو «سيفوّزون» ستُسقط نياتهم مع ما يمكن ان يترتّب عن ذلك عن سقوط لوائح في بعض الدوائر ما قد يستدعي إجراء انتخابات فرعية في هذه الدائرة او تلك، وذلك في حال لم يملأ الفراغ بمرشحين ستؤدي نتيجة درس الطعون الى فوزهم على أنقاض من سيطعن المجلس الدستوري بنيابتهم.