المتابع لأداء الحركات الإسلامية أو التيارات الإسلامية التي وصلت إلى مواقع الحكم أو الحكومات والبرلمانات في عدد من الدول العربية والإسلامية ، يلحظ بوضوح في هذه المرحلة أن القضايا الاجتماعية والتنموية والاقتصادية بدأت تأخذ حيزا واضحا في برامجها السياسية والانتخابية وعلى صعيد دورها في السلطة سواء من موقع الحكم أو المعارضة.

وباستثناء عدد قليل من الأحزاب الإسلامية ( كحزب التحرير وبعض التيارات السلفية والجهادية) لم تعد الحركات الإسلامية تعطي الأولوية في هذه المراحل لقضية الحكم الإسلامي أو مشروع الدولة الإسلامية أو القضايا الأيديولوجية والعقائدية والفكرية ، فالأغلبية العظمى من هذه الأحزاب ، التاريخية منها أو تلك التي برزت في العقود الأخيرة ، بدأت تركز في أولوياتها على الأوضاع الداخلية في دولها وتهتم بشكل كبير بالقضايا الاقتصادية والبيئية والتنموية والاجتماعية ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مراقبة برامج وأداء معظم هذه الأحزاب ومنها : الإخوان المسلمون بتنوعاتهم المختلفة ، حزب الدعوة الإسلامية في العراق مع بعض امتداداته العربية ، حزب الله في لبنان ، حزب العدالة والتنمية في تركيا ، التيارات المختلفة في ايران ، الأحزاب الإسلامية في السودان وباكستان وإندونيسيا وماليزيا ، حركة النهضة في تونس ، حزب العدالة والتنمية في المغرب، إلى ما هنالك من أحزاب إسلامية.

ولا يعني الاهتمام بالقضايا الداخلية أو إعطاء الأولوية للأوضاع الاقتصادية والتنموية والاجتماعية، ابتعاد هذه الأحزاب كلية عن القضايا الفكرية أو القضايا السياسية المركزية كقضية المقاومة أو القضية الفلسطينية أو حمل هموم المسلمين في العالم ، فهذه المسائل لا تزال حاضرة في أداء ومواقف التيارات والأحزاب الإسلامية على مختلف تنوعاتها لكن ليس بالمستوى الذي كان سابقا ،  فمن يدقق في برامج وأولويات هذه الأحزاب يستطيع أن يلاحظ أن الهم الاجتماعي أو التنموي أو الاقتصادي وصولا لقضايا البيئة ومحاربة الفساد أصبح يأخذ حيزا أكبر مما كان يأخذه سابقا، كما أن التفاعل مع القضايا المركزية والهموم الإسلامية العامة لم يعد بالمستوى الذي كان قائما قبل عدة عقود ، كما أن الهموم القطرية لكل حركة أو حزب أصبحت تطغى في معظم الأحيان على الهموم المركزية ، مع وجود بعض الاستثناءات في بعض الأحيان ، وخصوصا بشأن القضية الفلسطينية أو تجاوز بعض الأحزاب لأدوارها المحلية إلى أدوار إقليمية.

لكن كيف نفسر هذا التغير في أولويات الأحزاب والحركات الإسلامية من القضايا الخارجية إلى القضايا الداخلية؟ ومن الأولويات الفكرية والعقائدية والسياسية إلى القضايا التنموية والاجتماعية والاقتصادية؟ وهل هذا دليل تراجع عن الرؤية الإسلامية ؟ أو انه دليل ضعف وخلل في الأداء؟

أن هذا التغير في أداء ومواقف الأحزاب والتيارات الإسلامية ناتج بشكل أساسي عن وصول بعضها للحكم أو عن التفاعل الحاصل بين هذه الأحزاب والبيئات التي تعمل فيها أو بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول التي تنشط فيها ، مما يجعل هناك حاجة أساسية لدى هذه الحركات كي تعطي الاهتمام للشؤون الداخلية على حساب القضايا المركزية ، إضافة للضغوط التي تتعرض لها هذه الحركات من جماهيرها ومؤيديها.

كما أن فشل بعض الأحزاب الإسلامية في الحكم ، في مقابل نجاح بعضها الآخر ، يدفعنا للمقارنة في أسباب الفشل أو النجاح ، فلم يعد المقياس في الفشل أو النجاح التقدم على الصعيد الدعوي أو الفكري أو الدور السياسي ، بل أصبح الهم الاقتصادي والتنموي والاجتماعي هو المقياس في النجاح والفشل.

إذن نحن أمام تطور جديد في مسار الحركات والأحزاب الإسلامية ، وهذا تطور طبيعي ، لأن الهدف الأساسي للدين عامة ،و للإسلام بشكل خاص ، العمل من اجل الإنسان وكرامته وتأمين حاجاته وتوفير أفضل الظروف لحياته ، وليس فقط إقامة الصلوات والعبادات والإكثار من التسبيحات والمستحبات ،أو رفع الشعارات العامة أو الاهتمام بالقضايا المركزية .

وهذا التطور في أداء الأحزاب والحركات الإسلامية يحتاج لتقييم جديد على ضوء النتائج التي ستصل إليها ، فلم يعد المقياس كم هو عدد الذين يلبون نداء هذه الأحزاب أو يرفعون شعاراتها أو يحملون أفكارها ، بل المقياس هو حول ما قدمت هذه الأحزاب لدولها وأقطارها ومجتمعاتها وشعوبها من تقدم حقيقي في مختلف المجالات مع الحفاظ على الهوية الإسلامية ومواجهة التحديات المختلفة الداخلية والخارجية.

وبانتظار قراءة النتائج للمرحلة الجديدة لاتزال هذه الأحزاب والحركات هي الأكثر حضورا في الواقع السياسي والاجتماعي والفكري رغم كل ما تعانيه من تضييق أو حصار أو تحديات ، وهذا أمر جدير بالاهتمام والدراسة أيضا.