عندما حُقّق مع السيّدة الإندونيسية التي أقدمت على تغطية وجه كيم جونغ نام، الأخ الأكبر غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي الحالي، بقطعة ملوثة بسائل الأعصاب عديم اللون «في إكس»، الذي هو في الأساس تطوير بريطاني لغاز السارين أكثر تسميماً منه بعشرة أضعاف، أفادت بأنّها أعطيت قطعة قماش من قبل مجهولين مقابل حفنة من الدولارات كي تتوجه نحو الشخص المذكور وتغطي وجهه على هذا النحو على سبيل المزاح. حدث ذلك في 13 شباط / فبراير من العام الماضي في مطار العاصمة الماليزية كوالالمبور، فيما كان كيم جونغ نام ينتظر طائرته. وجهت ماليزيا الاتهام لنظام كيم جونغ أون بوقوفه وراء اغتيال كيم جونغ نام، فيما اتهمت كوريا الشمالية الدوائر الإمبريالية بالفعلة، وطالبت باستعادة جثمان الضحية، الذي كان يعدّه والده كيم جونغ ايل في وقت من الأوقات لتولي زمام السلطة من بعده، قبل أن تؤدي فضيحة انكشاف أمر هذا الابن البكر عام 2001، بجواز سفر مزور في اليابان، لرغبته في الذهاب إلى «طوكيو دزني لاند» إلى خسارته الحظوة الأبوية لصالح أخيه، كيم جونغ أون.
مثلما أنّ «في إكس» هو بمثابة «تكثيف مختبري» لغاز السارين، كذلك قصة تحوّله إلى سلاح تكثّف إلى حد كبير قصّة الأسلحة الكيميائية. فهو في الأساس، شأنه في ذلك شأن سائر المواد المستخدمة في الحرب الكيماوية، ابتكر في إطار البحث العلمي لتطوير مبيدات الحشرات، ثم ظهر أنّ إبادته للحشرات يلحق إضرارا أكبر بالأشجار والنباتات وصحة الغذاء والبيئة، فجرى «تحوير استخدامه» إلى نطاق آخر: سلاح يقتل فيه البشر بشراً آخرين. وإذا كان «سمعة» السلاح الكيميائي الرائجة هي كسلاح دمار شامل، وفتك واسع النطاق بمجموعات من السكان، فإنّ «حادثة» مطار كوالالمبور تظهر الوجه الآخر لـ«في إكس» مثلاً، استخدامه لدواعي الاغتيال، وإمكانية مرور قطعة القماش الملوثة به على أجهزة المراقبة دون أن يكون بالإمكان التنبه له.
تظهر هنا ثلاث سمات للسلاح الكيميائي.
أوّلها، أنّه ليس فقط سلاحا يجري العمل على حظره والتخلص من الكميات المخزنة منه عبر العالم، بل هو أيضاً «سلاح محتقر»، ما بين سلاح التدمير الأكثر شمولية منه، السلاح النووي، الذي ينظر له كامتياز قومي بالنسبة إلى الأمم التي تحوزه، وليس هناك إجماع واضح متعيّن في القانون الدولي على تخليص البشرية منه، وبين معظم الأسلحة والمتفجرات في العالم، غير المصنّفة كأسلحة دمار شامل، والتي ينظر لها على أنّها «تقليدية»، بكل مفارقات التوصيف هذا.
أما السمة الثانية للسلاح الكيميائي فهي أنّه يحتفظ به كلّ واحد منا في منزله تقريباً، أو يلتجئ إليه. فكل مبيد حشرات هو سلاح كيميائي، وكل سلاح كيميائي هو «مبيد حشرات» ضلّ سبيله من إطاره البحثي الأوّل إلى إطار «إباديّ» للبشر. وهذا ما يخلق أساساً نوعا من الإشكال لناحية حظر المواد الكيميائية الممكن استخدامها لأغراض مسلّحة. فإذا كان بروتوكول حظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة والسامة والوسائل الجرثومية عام 1925 لم يلحظ بحدّ ذاته هذا الفارق، إلا أنّ تطوّر القانون الدولي المتعلّق بحظر الأسلحة الكيميائية كان عليه التمييز مثلاً بين السارين والفي إكس وغاز الخردل وبين الكلورين. فغاز الكلورين السام غير مصنّف بحدّ ذاته كسلاح كيميائي، لكنه يصير كذلك حين يستخدم كسلاح. والفوزجين الأكثر سمية من الكلورين بتسعة أضعاف لا يمكن تحريمه بحدّ ذاته هو أيضاً، لأنه يستخدم في صناعات كيميائية عديدة، تستخدم بدورها في صناعة مواد البناء أو حتى الملابس.
السمة الثالثة أنّ السلاح الكيميائي هو سلاح «صديق للكذب والمراوغة». ليس أيام الحرب العالمية الأولى حين كانت تتفاخر الجيوش المحاربة بأنّها تقوم بهجمات بغاز الخردل لتجاوز حال الشلل على جبهات حرب الخنادق الطويلة الأمد. إنّما أكثر فأكثر منذ تطوّر تعاطي مختلف في القانون والسياسة الدوليين تجاه الأسلحة الكيميائية، مقارنة بالأسلحة الإشعاعية أو التفجيرية. قيل للسلاح الكيميائي، أنت بالذات عليك أن تختفي من الوجود، وقيل هذا الكلام أكثر في أعقاب حرب الخليج ونهاية الحرب الباردة. أصناف الكذب والنفاق توزّعت هنا، بين الأنظمة التي تخفي تخزيناتها من الأسلحة الكيماوية، وبين تزوير التقارير كما حصل في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
واليوم، بعد المعلومات عن تعرّض الغوطة لهجوم كيميائي جديد، تظهر أكثر فأكثر سمة الكيميائي كسلاح صديق للنفاق والرياء والمراوغة. ليس فقط فيما يتصل بالنظام السوري. أيضاً وخصوصاً بما يتصل بـ«المجتمع الدولي»، وتحديداً منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. بعد ثلاثة أشهر من الهجوم بالسارين في خان العسل، بالغوطة الشرقية، 21 اب/اغسطس 2013، نالت هذه المنظمة جائزة نوبل لجهودها في سحب الأسلحة الكيميائية من سوريا، أي أساساً انضمام النظام السوري لاتفاقية الأسلحة الكيميائية في إثر الهجوم، وقيام تفاهم أمريكي روسي لإتلاف ترسانته من هذه الأسلحة. أكدت المنظمة وقتها حصول الهجوم بالسارين، ولم تحدّد الجهة المسؤولة عنه، وطبعاً يمكن أن تعتبر المنظمة أنها لا يمكنها أن تحدّد هذه الجهة تقنياً، غير أنّها اعتبرت بعد ذلك أن النظام سلّم بالفعل كل ترسانته الكيميائية، وحين قامت هجمات بغاز الكلورين، أعتبر أن الكلورين ليس مشمولاً أساساً بمعاهدة حظر الأسلحة الكيميائية بحدّ ذاته، ما استلزم استصدار قرار دولي بهذا الشأن، «عقمّ» نصّه باللمسات الروسية عليه. قامت المنظمة في العام الماضي بتأكيد حصل الهجوم بالسارين في خان شيخون في 7 نيسان/ابريل 2017، بعد خمسة شهور عليه، ومرة أخرى من دون تحديد الجهة التي قامت بالهجوم، وبعد وقت ستعترف المنظمة بالهجوم الأخير، وهكذا… مع أنّها اعتبرت بأن النظام أتلف مخزونه، كما اعتبرت أنّ العالم تمكّن في العقود الأخيرة من اتلاف أكثر من تسعين بالمئة من الأسلحة الكيميائية، والحال أن ما تظهره الكارثة السورية ليس فقط عدم صحة الاعتبار الأول، بل تقدم ما يكفي من تشكيك بالاعتبار الثاني، الأمر الذي يجعل السلاح الكيميائي أكثر فأكثر، سلاحا للمستقبل، في الوقت الذي قام كل اعتبار المنظمة على اعتباره سلاحا للماضي.