كان رجال الدين دائماً في جانب أساسي من المشهد اللبناني منذ تأسيس الكيان. اللبنانيون يذكرون أدواراً فاعلة للبطاركة الموارنة والمفتين السنّة والآخرين. تصرّف هؤلاء كممثلين للجماعات التي كان عليها أن تعيش معاً بأكبر قدر من التنازلات المتبادلة. فعلاً «نفيان لا يصنعان أمة» (لا للشرق ولا للغرب) لكن صنعا حياة مشتركة لم تعكّرها إلا توازنات السلطة السياسية. 
أفرزت الحرب الأهلية تيارات طائفية دينية تجاوزت الطائفية السياسية إلى التأكيد على الهويات الدينية. دخلت «الرهبنة المارونية» المسرح السياسي والحربي، وظهرت حركة التوحيد الإسلامية السنية في طرابلس، وتأسّس «حزب الله» الشيعي. ظلت المرجعيات الدينية أكثر ميلاً لإنتاج تسوية سياسية ولو أنها شكّلت مظلة كبرى لمطالب الطوائف. غير أن «المؤسسات المارونية» أصدرت مواقف وبيانات طالبت بإعادة النظر في صيغة 1943 فكان رد مدير الإفتاء الدكتور حسين القوتلي الشهير الذي أعلن «إن المسلمين يضحّون للصيغة اللبنانية إذ يقبلون بحكم غير إسلامي». وقد أثار هذا الكلام عاصفة من ردود الفعل. وحين انهارت وحدة البلاد تحت الاحتلال الإسرائيلي أصدر «حزب الله» وثيقته التأسيسية (1985) عن مشروعه لإقامة «جمهورية إسلامية في لبنان». تجاوز الحزب هذه الوثيقة وتبنّى لاحقاً «الديموقراطية التوافقية»، أي نظام الطائفية السياسية، ووقّع مع التيار الوطني الحر على «التفاهم» الذي ينفتح على صيغة الدولة المدنية. لكن الإعلانات كانت أسيرة الصراع الطائفي على السلطة التي شقّت البلاد على ثنائية النزاع السني ـ الشيعي. 
ومنذ سنوات صار التموضع في الصراع الإقليمي يعمّق المشروعين الطائفيين ويغذيهما بكل المفردات والمصطلحات الدينية. 
في الخطاب الشيعي تكرّر مصطلح «شعب المقاومة» والتراث الكربلائي والرؤية الخلاصية، التي تبدأ بولاية الفقيه وتنتهي بظهور الإمام المهدي المنتظر. وفي الخطاب السني صار كل متغيّر سياسي له أسبابه الاجتماعية والتاريخية، «فتنة وشعوبية وخروج عن الإسلام الأصلي وبدعة وكفر». لكن الاتهام لا يمكن أن يكون افتعالاً خالصاً ووهماً مطلقاً، فهو ينطلق من تأويل الحوادث والوقائع التي تنطوي عادة على المساس بدور الطرف الآخر. ولأنها تصدر عن مؤسسات دينية من العراق إلى لبنان، وعن أحزاب دينية تبالغ كذلك في تأويلها الديني، يصبح أي تغيير سياسي هو مصادرة لرموز الآخر واعتداء عليه في منظومة مقدساته. فكيف إذا تحوّلت الحياة السياسية إلى «مشاريع جهادية» لا تحتمل الالتباس الديني والطائفي؟ 
هذا المأزق بدأ يتأسّس انطلاقاً من ارتكاز شرعيات السلطة في العالم العربي ومعظم الحركات السياسية على الثقافة الدينية. تفاقم هذا الوضع مع الفشل الذي انتهت إليه الأنظمة القومية فالتمست لنفسها دعم المعسكر النفطي الخليجي، وسايرت ثقافته واستعانت بكل الثقافة التقليدية لتأكيد استمرارها في السلطة. ولا شك أن تحدي الصعود الإيراني ساهم في انكشاف النظام العربي سياسياً وأمنياً وثقافياً، بحيث حفز الأنظمة على مقاومة هذا التحدي على مستوى يطرحه من ثقافة دينية مذهبية، وحفز الشعوب العربية إلى استلهامه ومنافسته في آن، فاستنفرت كل ثقافتها الدينية التقليدية على أنقاض المشروع العربي القومي والمدني. 
ليست «الفتنة» مجرد نزاعات فقهية بين مفهومي «الخلافة» و«الإمامة». بل هي تستوحي دلالاتها الرمزية لتشحن المشاريع السياسية المتصارعة. فلا يمكن لمجتمعات عانت عقوداً من الكبت ومن المهانة ومن أشكال التمييز الديني والطائفي وحصدت كل هذه الأوضاع الاجتماعية المزرية، ولم تختبر أي شكل من الحرية والمشاركة السياسية، إلا أن تسلك هذا المسار التاريخي المعقّد والمشوّه لكي تنتج مشروعها المدني المعاصر. لم ينتج المتغيّر العراقي أو المصري أو اللبناني أو السوري إلا المزيد من المشكلات والأزمات طالما هو محصور في هذه المعادلة السياسية السلطوية ولا يملك أجوبة واضحة لقضايا الناس الاجتماعية التي كانت في أساس «ثورتها». 
ولن تحسم هذه الأمور على المستوى النظري في مواجهة هذا الإرث الثقيل من ثقافة الاستبداد وثقافة التقليد الديني. وليس غريباً أن نجد فئات تحن إلى ما قبل التغيير أو أنها تعارض هذا التغيــير، الذي أطلق كل ما في جوف المجتـمعات العربية من مظاهر سلبية. لكن تجارب الإسلام السياسي بكل منوّعاته من العراق إلى مصر مروراً بكل الحركات في تونس وليبيا وسوريا كشفت عن قصور عميق عن تقديم فعل إيجابي غير تفكيك المنظومات السياسية السابقة. 
مصر إلى أزمة اقتصادية أساسها إعادة إنتاج السياسات السابقة. والعراق الغني إلى الفقر إلى أشكال جديدة في نهب الثروات وهدرها. وسوريا إلى عنف تدميري لا يمكن لأي سلطة إسلامية أو تقليدية أن تعالج آثاره. ولبنان تحولت التيارات الإسلامية فيه إلى منظمات طائفية عاجزة عن التقدم في المستوى الوطني. فإذا كان الإسلام السياسي في كل مكان صار مشروعاً لحرب أهلية بأشكال مختلفة فقد استنفد إمكاناته على تقديم بديل مهما حاول ذلك بالعنف. 
هذه اللحظة التاريخية العربية تستدعي تقصير مرحلة الآلام بالمبادرات إلى طرح القضايا المدنية والاجتماعية المتصلة بحياة الناس في مواجهة الصنميات الفكرية السائرة عكس التاريخ.