في معرض مناقشات النواب للموازنة وإقرارها، انتهز كثيرون منهم فرصة المنبر المتاح والهواء المفتوح، لتفعيل حملاتهم الانتخابية. شهدت الجلسات مزايدات كثيرة، أبرزها بشأن الفساد، الاصلاحات في الموازنة، تعديل دوام العمل، خطة الكهرباء، إنجاح المؤتمرات، بالإضافة إلى جوانب معيشية تهمّ المواطنين ويومياتهم. أثار بعض النواب مسألة الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية، والذين لا تزال ملفاتهم عالقة أو معرقلة بسبب "التوازن الطائفي"، وهو الشعار الذي يرفعه وزير الخارجية جبران باسيل، لعدم إنصاف هؤلاء الناجحين، قبل إدخال عدد مواز من المسيحيين. صحيح أن الرئيس نبيه بري حفظ حقّ الناجحين في المحضر وإن تخطّت مدّة نجاحهم السنتين. لكن لا يمكن إغفال بعض السجالات والنقاشات التي حصلت، والتي ظهر فيها الرئيس سعد الحريري مدافعاً عن الوزير باسيل.

لدى إثارة الملف، اعتبر بري أن في لبنان دستور، ووجه السؤال إلى الحريري إذا ما كانت الحكومة تلتزم بالدستور وتحترم مجلس الخدمة المدنية الموثوق من مختلف الأطراف في امتحانات التوظيف في مؤسسات الدولة. واعتبر بري أن القانون يجب أن يطبّق ويتم استدعاء هؤلاء للالتحاق بوظائفهم. صوّب النواب على باسيل، فيما تولّى الحريري مهمة الدفاع عنه. فلم يعتبر أن المشكلة طائفية، بل وضعها في خانة الخلاف السياسي، الذي يجب حلّه في تسوية سياسية، وبعيداً من الإعلام كما أكد الحريري.

انقسم النّواب في تقديرهم موقف الحريري. بعضهم اعتبر أنه كلام رجل دولة ومسؤول، يبحث عن حلّ للازمة، لا سيما قبل الانتخابات النيابية، ولكن بعيداً من الإثارات الشعبوية، فيما البعض الآخر اعتبر أن الحريري لا يريد إثارة الموضوع في الإعلام كي لا يؤثر سلباً على حليفه وشريكه في العهد، وزير الخارجية، وكي لا يستثمر ذلك ضده انتخابياً. وربطوا هذا الموقف بغيره من المواقف، لا سيما من خطّة الكهرباء.

أكثر من ذلك، بعض النواب كانوا يعلّقون في ما بينهم على دفاع الحريري عن باسيل، وكأن الجميع حرص على عدم إزعاج "رجل العهد". استحضر أحد النواب ما قاله النائب سليمان فرنجية لدى سؤاله، منذ فترة، عن موقفه من العهد، فردّ على السؤال بسؤال إذا ما كان المقصود هو عهد جبران باسيل. فاعتبر هذا النائب أن الحريري يتعاطى مع باسيل وكأنه هو رئيس الجمهورية ولا يريد إغضابه ومواجهته.

هذا التلاقي بين الحريري وباسيل لم يقتصر على الملفات الإشكالية التي أثيرت، بل انعكس أيضاً وئاماً بين نواب الفريقين، تصويتاً لمصلحة الموازنة، مقابل تحفّظ الحزب عليها. بين سطور الجلسة وما تخللها من مواقف، لا بد من استشراف أن ثمة مرحلة جديدة بعد الانتخابات النيابية، وستنعكس على التحالفات السياسية. ليس تفصيلاً أن لا يصوّت نواب الحزب  للموازنة ويتحفظون. هي رسالة أساسية إلى عدم الرضى عنها، وعن المشاريع التي تحملها. والرسالة الأبعد تتعلّق بالمؤتمرات الدولية. دخل الحزب بقوة على خطّ توجيه انتقادات إلى مشاريع تشوبها شوائب وتحيط بها شبهات، إعلان الحزب  الحرب على الفساد، لا بد أنه يطاول حلفاءه قبل خصومه وفق ما يراه البعض. وهذا ما سيكون له انعكاسات سياسية في المقبل من الأيام. يتحمس التيار الوطني الحر والمستقبل للذهاب إلى المؤتمرات الدولية، فيما الحزب  يتهيب ذلك، ويتوقع الأسوأ، خصوصاً أن المؤتمرات تربط تقديم الدعم للبنان، بتطبيق القرارات الدولية ونزع سلاح الحزب. ينام الحزب على اطمئنانه للعهد ولدوره في لبنان والمنطقة، ويستفيق على مفاجأة طرح الاستراتيجية الدفاعية، أي البحث في سلاحه ومصير دوره. هذه النقاط لا تفترق عن الاختلافات بشأن الخطط المالية والفساد، وكأن الحزب يوجه رسائل إلى من يعنيهم الأمر، بأن لديه ملفات قابلة للفتح، وبأنه سيمضي في المواجهة إلى النهاية، إذا ما لجأ هؤلاء إلى خطوات غير محسوبة.

في المقابل، وبالنسبة إلى الحريري، فإن العلاقة مع باسيل يمكن أن يُبنى عليها، وما تكرس في السياسية الداخلية، وفي الخطط الإقتصادية والمالية، قابل للتمتين في الأيام المقبلة، لجهة التوجهات في السياسة العامة وعلاقات لبنان الخارجية، وقد يتطور ذلك إلى إيجاد رؤية مشتركة إزاء سلاح الحزب  ودوره. ما يراهن عليه هؤلاء، هو الاختلاف بين باسيل وشخصية رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي يعتبرون أنه مبدئي ولا شيء يمكن إبعاده عن الحزب أو وضعه في صدام معه، بينما باسيل لا يدين للحزب بشيء، وبراغماتي إلى أقصى الحدود. لذلك، يعرف أين تكمن مصلحته، ويعرف كيف سيتكيف مع المتغيرات الدولية، خصوصاً أن لبنان سيحظى باهتمام دولي في الفترة المقبلة، وفي ضوء المتغيرات الأميركية التي تعيد إلى الذاكرة مرحلة تشبه التي سبقت القرار 1559.