الحريري يترشّح في بيروت، لكن صيدا هي بيته وميراثه... من والده إلى عمّته. لذلك، صيدا تعني له كثيراً رمزيّاً. في المقابل، لا يدرك البعض أنّ الرئيس ميشال عون، الذي نشأ في دائرة بعبدا ودخل المجلس النيابي عن دائرة كسروان، له حنين خاص إلى جزين. فأجداده كانوا في إحدى قراها، خِرْخَيّا، (هي اليوم مهجورة)، وذووه نزحوا منها إلى برج البراجنة. وما زال أنسباؤه لهم مواقعهم في جزين وبلداتها.
 

إنطلاقاً من خصوصية نظرة عون إلى جزين، يمكن إدراك أهمية هذه الدائرة لـ»التيار الوطني الحرّ»، وخلفيّات قول الوزير جبران باسيل الشهير «إننا سنحرّر جزين» من يدِ الرئيس نبيه بري.

فهذا القضاء، ذو الغالبية المسيحية، هو أوّل أقضية لبنان الجنوبي من جهة الجبل، لكنه أيضاً آخر أقضية الجبل التاريخية من جهة الجنوب. وهذه الجدلية بين «جنوبيّة جزين» و»جَبَليّة جزين» تكمن وراء كل أزمة التجاذب بين «التيار» وبري.

لبرّي، ومعه «حزب الله»، منطق آخر في هذا الملف: هناك حضور شيعي فاعل وتاريخي في القضاء وفي بلدة جزين نفسها. ولا يمكن الفصل بين جزين وتاريخها، بمعزل عن التركيبة الديموغرافية الحالية للقضاء.

في العمق، هذه خلفية النزاع حول جزّين، وتجري ترجمته بالتجاذبات السياسية التي تبدو سطحية بين بري وباسيل، إنما هي تغوص في العمق وتحمل أبعاداً لا يمكن حلّها بلعبة تحالفٍ انتخابي.

حقّق باسيل «وعدَه» في انتخابات النظام «المرذول» الأكثري، وحاز نواب جزين الثلاثة، وهما مارونيان وكاثوليكي. لكنّ المفارقة أنه في النظام «المرغوب فيه» النسبي - التفضيلي، سيفقد مارونياً بالتأكيد، وقد يخسر الكاثوليكي أيضاً.

جَدّد بري دعم آل عازار، وهم زعامة جزينية قديمة. وبعد رحيل النائب سمير عازار، أعلن بري ترشيح نجله ابراهيم. ولمجرد الترشيح، أصبح وصول عازار إلى المجلس مضموناً لأنّ الناخبين الشيعة في القضاء نحو 12.4 ألفاً، وينتظر أن يقترع منهم ما بين 7 آلاف و8 آلاف. والناخبون في الدائرة يقاربون الـ122 ألفاً ( 62.6 ألفاً في صيدا و59.7 ألفاً في جزين).

كما أنّ للائحة المدعومة من بري و»حزب الله» مؤيّدين بين المسيحيين في القضاء، ما يسمح للائحة بتأمين حاصلَين إنتخابيين وفق بعض المتابعين، ما يتيح فوز عازار في جزين والنائب السابق أسامة سعد في صيدا.

تطلّع «التيار البرتقالي» في جزين إلى تحالفٍ مع «التيار الأزرق» في صيدا يسمح بمواجهة «الثنائي الشيعي». فالطرفان، الحريري و«التيار»، مقبلان على خسارة مقعد لمصلحة اللائحة المدعومة شيعياً: عازار في جزين والرئيس فؤاد السنيورة في صيدا (إنسحب لإدراكه النتائج مسبقاً).

وافق الحريري على مبدأ التحالف مع باسيل، لكنهما اختلفا على «الحِسْبة». فالحريري يعتقد أنه بهذا التحالف يقدّم عوناً للبرتقالي في جزين، فيتيح له الحفاظ على الكاثوليكي، ويحدّ من خسائره في وجه «الثنائي الشيعي».لكن «المستقبل» لا يستفيد من هذا التحالف عملياً لأنه سيفوز بمقعد النائبة بهية الحريري فقط.

في حسابات الحريري أنّ «المستقبل» يستحق أن يحوز أيضاً على مقعد الكاثوليكي لأنّ الدعم الذي سيوفّره للائحة يفوق ما سيقدِّمه «التيار الوطني الحرّ». وطبعاً، رفض باسيل هذا الطرح فتعطّلت مسيرة التحالف بين التيارين.

في العمق، يقول المطّلعون، يريد رئيس الحكومة والنائب الحريري أن يكون هناك يدٌ للحريرية في جزين، كما ستكون هناك يدٌ لبري و»حزب الله» من خلال عازار. ويقف باسيل مُربكاً في خياراته، فيما القوى المسيحية الأخرى تبحث عن مخارج لمآزقها، لأنّ معركة كل منها صعبة في هذه الدائرة.

«القوات» تعاني مأزق عدم التعاون صيداويّاً، والكتائب تجهد لتأمين حاصل انتخابي، والتحالف بين «القوات» والكتائب قد يؤدي دوره جزينياً، لكنه قد لا يكون مفيداً صيداويّاً.

«التيار الأزرق» يضمن مقعداً واحداً هو أحد المقعدين السنّيين في صيدا، للنائب الحريري. ولا مقعد سواه. وأما «التيار البرتقالي» فيضمن مقعداً واحداً هو أحد المقعدين المارونيين في جزين. ولا مقعد سواه. ويتهافت كل من التيارين على المقعد الكاثوليكي لتعويض بعض من الخسارة التي ستلحق به في 6 أيار.

وفي الواقع، معركة جزين باتت تختصر بالمعركة على المقعد الكاثوليكي. ولذلك، كانت ترشيحات «التيار الوطني الحرّ» واضحة في كل الدوائر إلّا في جزين، وفي المقعد الكاثوليكي، حيث جَرت تسمية مرشحين اثنين لمقعد واحد، هما سليم خوري وجاد صوايا.

إذاً، نواب صيدا - جزين الخمسة، وفق المتوقّع سيكونون: بهية الحريري وأسامة سعد (سنّيان عن صيدا) وابراهيم عازار وأحد اثنين أمل أبو زيد أو زياد أسوَد (مارونيان عن جزين). ويبقى الكاثوليكي موضع تجاذب.

إذا توافق «التيار الوطني الحرّ» و«المستقبل» ربما يستطيعان الفوز بالمقعد الكاثوليكي، إلا أنّ هذا التحالف يصطدم بالعناد والطموحات المتبادلة. لكن تحالف القوى الأخرى، المسيحية («القوات» والكتائب والنائب السابق إدمون رزق من خلال نجله أمين، العميد المتقاعد صلاح جبران)، والسنّية («الجماعة الإسلامية» وعبد الرحمن البزري وآخرون) قد يبدّل المعادلة. لكنّ جَمع هذه القوى يبدو أمراً عسيراً جداً.

وتبقى معركة صيدا - جزين، في عمقها، ترجمة لوجهين من النزاع:


1- النزاع حول تمثيل جزين السياسي، بين القوى السياسية والطائفية النافذة في السلطة: عون - بري - الحريري.


2- النزاع حول تمثيل السُنَّة عموماً، وفي صيدا خصوصاً. بل هو استفتاء حول الحريرية في عقر دارها وساحتها الرمزية. فصيدا هي أيضاً بوابة الجنوب، ذي الغالبية الشيعية، وعاصمته.

ووفقاً لِما توحي به النتائج، قبل الانتخابات، هناك فسيفساء تمثيلية ستَرتسِم على مستوى الدائرة كلها، في صيدا كما في جزين. لكنّ النتيجة واضحة، وهي أنّ تحالف بري - «حزب الله» سيتمكن من خرق صيدا وجزين، من دون أن يكون هناك مقعد شيعي في أيّ من الدائرتين الصغريين.