تهمة العمالة لاسرائيل لم تعد خطرة، مشينة، وقاتلة. لعلها ستفقد من الان فصاعداً طابع الإثارة الذي كانت تتمتع به، وقد تصبح مثيرة للسخرية، بعدما صارت بالفعل مثيرة للريبة. عندها يمكن ان يتسلل الاسرائيليون أكثر من أي وقت مضى، وعندها يمكن ان يرتكب لبنانيون الخيانة العظمى أكثر من ذي قبل.

الثابت أن فضيحة تلفيق تلك التهمة القصوى بالذات الى الفنان زياد عيتاني، أفقد لبنان بعضاً من مناعته الوطنية المفترضة، التي لا يمكن إستردادها بإعلان براءته وطلب المغفرة منه. ثمة إنهيار إضافي للدولة اللبنانية، بمؤسساتها السياسية والامنية والقضائية، التي كانت تتصارع وتتراشق بواحد من أكبر المحرمات، وأهم المقدسات، وتنحدر بالصراع مع العدو الاسرائيلي بالتحديد الى مرتبة المهزلة، الألعوبة، او الكوميديا السوداء.

بعد هذه الفضيحة، ترى ما هو شعور العملاء الحقيقيين؟ وما هو شعور المتهمين ظلماً بالعمالة؟ أولئك الذين دخلوا السجن وغادروه ، بعفوٍ  او بإعتذارٍ . وهم كثر . ثمة بنية فكرية -ثقافية - سياسية كاملة تتهاوى، وتقوض أهم الاسس التي إستند اليها الصراع مع العدو: الجدية المطلقة التي لا تحتمل التأويل ولا تتساهل مع فكرة التلاعب بتلك التهمة، وتحويلها الى سلاح سياسي داخلي في يد هذا الطرف او ذاك.

ترى كيف تابع الاسرائيليون وقائع تلك المهزلة اللبنانية؟ لعلهم ضحكوا كثيرا، وهزئوا أكثر. ليس من المستبعد أن بعض المعنيين منهم، المسؤولين عن ملف العمالة والجاسوسية، ذهلوا أمام ذلك العبث اللبناني بمسألة يفترض أنها بالغة الدقة والحساسية الأمنية، والسياسية.. ولعلهم إشتبهوا بأن ثمة خدعة لبنانية ما، او عملية تمويه، او حتى عملية تجسس مضاد، يجري التحضير لها في مكان ما في لبنان؟ وإلا فما هو سر بقاء الفنان زياد عيتاني محتجزا لمدة تزيد عن المئة يوم؟

بعض الارتباك في صفوف العدو مفيد طبعا. بعض التشويش على أجهزته وعملائه مطلوبٌ حتماً. لكن ليس بهذه الطريقة الغريبة، التي ما ان تكشف تفاصيلها كاملة حتى يدرك الاسرائيليون أنهم كانوا وما زالوا يحاولون إختراق دولة مخترقة بعدم الوعي وقلة الاحتراف وإنعدام الكفاءة في مكافحة التجسس في مجتمع معقد ومفكك .. ولا يعترف بالحدود الدولية.

 لا مبرر عملياً للقول بان تبرئة زياد بعد هذه المدة الطويلة جداً من الأخذ والرد والتهم والتسريبات المتبادلة، هي دليل على ان ثمة دولة لبنانية تعمل بطريقة أفضل نسبياً من بقية الدول العربية. فالبراءة لم توضع في رصيد دولة او حتى مؤسسة، بل في رصيد أفراد، ظهر بعضهم وكأنه يتمرد على دولته وعلى مؤسسته. ولولا ذلك التمرد المتأخر لبقي زياد خلف القضبان، وظلت تهمة العمالة أسيرة وجهات نظر سياسية متضاربة، وتقارير صحف مشبوهة ، وصفحات فايسبوك مشوهة.

كان موقفاً قاسياً جداً أن يضطر فنان ملتزم مثل زياد عيتاني الى التذكير بتاريخه وتاريخ عائلته السياسي. لعله كان يردد ما كان يقوله امام المحققين الذين عذبوه ولم يسمعوه ولم يصدقوه طبعا. عندها بدا أن علمانيته ويساريته وتجربته تدلي بمرافعتها الدفاعية الحقيقية، أمام سلطة الدولة وسطوة المجتمع، اللذين شهدا في الايام المئة الماضية الكثير من الفرز الطائفي والمذهبي.. وهو ما كان ذريعة التعدي على زياد ، وما صار في ما بعد حجة التراجع والتسليم بضرورة إعلان براءته.

لا يعني الافراج عن زياد عيتاني إسدال الستار على مسرحيته الاخيرة. فهي كانت وستبقى خارج معركة الانتخابات النيابية. وهي ستفقد الكثير من جمهورها إذا ما نسبت حبكتها وخاتمتها الى أي لائحة أو مرشح. ثمة عدو يتربص بالبلد، ويتحين الفرص لكي يخترقه، او لكي يسخر منه.. وهنا بالذات لا بد من ردٍ .