كلما كانت تنشب، في النصف الثاني من القرن الماضي حركة احتجاجية أو تسلك منعرجا انتفاضيا، في أي بقعة من العالم، كانت المجموعات التروتسكية المتناثرة هنا وهناك تتناوب على تسليط الضوء على هذه الحركة، مبينة طابعها الطبقي ونصلها التحرري، ومتأسفة في الوقت عينه بأنّها حركة او انتفاضة لن تستطيع تخصيب نفسها بنفسها، ما دامت الأزمة الكونية التي «هي هي» أزمة النظام الرأسمالي العالمي وأزمة البدائل الثورية عنه، في نفس الوقت، هي «أزمة وعي وتنظيم»، أزمة غياب الحزب الثوري القادر على استثمار هذه الحيوية الاحتجاجية أو الانتفاضية، والدفع بها نحو «القطيعة»، وقد كان لليون تروتسكي تعبير بليغ عن سمة هذه الازمة المزدوجة، نهاية الثلاثينيات، في «البرنامج الانتقالي للاممية الرابعة»، حين اعتبر ان شروط الثورة فسدت من كثرة ما نضجت بلا طائل.
بعض هذه المجموعات التروتسكية أحب مع الوقت «التكيف» مع ما كان يظهر أنه روح العصر، الروح المتحللة من فكرة «القطيعة البلشفية»، لصالح مناخات من قبيل «الكرّ والفرّ»، و«الحفر والنخر»، والكون حيث الناس تكون، مع محاولة الدفع بهما قدر المستطاع نحو أقصى ما يمكن توخيه منهم، في اللحظة المعنية.
يحتاج المرء، خصوصا إذا ما كانت راكزة فيه مصادر التراث الماركسي وتراث الحركة العمالية في القرنين السابقين، لكثير من الجهد لابعاد اغواء «المحاكاة الضمنية» لهذه الأسلوبية التروتسكية في مقاربة الأوضاع اللبنانية، سواء عرفت هذه الاوضاع حالات احتجاجية موسمية، أو أوحت بنقمة معتملة في الصدور في أعقاب كل فضيحة يتحفنا بها السستام اللبناني، مرة في الاقتصاد ومرة في السياسة ومرة في الامن ومرة في الثقافة، واكثر المرات بخلطات من كل هذا.
فأزمة هذا السستام هي بالفعل انه نجح في تأخير انهياره منذ فترة طويلة، وانه نجح استنادا إلى غريزة الهروب الدائم إلى الامام، اي استدانة ايام طائلة من المستقبل للعبث بها في الحاضر، بما يشمل كل المستويات والقطاعات، وينطلق هذا السستام من افعال ايمان، خاصته، منها، ان لا حرب اهلية بعد تلك التي وضعت اوزارها مطلع التسعينيات، ولا ازمة مالية كبرى بعد ازمة انهيار سعر صرف الليرة عام 1992، ثم ارساء دولرة مزمنة وثابتة إلى حد كبير، من وقتها، وان لا حركة نقابية منذ مصادرة الاتحاد العمالي العام منذ نهاية التسعينيات. بالتوازي، هناك طبعا، «لاءات» الحزب الاكثر تحكما بالتركيبة القائمة، «حزب الله»، وفي طليعتها ان لا بحث جديا في موضوع سلاحه، خصوصا بعد حرب تموز التي وافقت الدولة اللبنانية بمن فيها الحزب في اثرها على قرار يقتضي سحب هذا السلاح من المنطقة الحدودية الجنوبية. وهناك ايضا وايضا، «افعال الايمان» القطاعية، لحاكمية المصرف المركزي وكونسورسيوم المصارف، التي يمكن تلخيصها في انتهاج نموذج رأسمالية دولة تحت حراسة وتوجيه المصرف المركزي وايلاف المصارف، رأسمالية دولة باسم اقتصاد السوق، لكن على قاعدة حصر حركة السوق، والتخفف اكثر فاكثر من قليل العدالة الاجتماعية، الوارد ذكرها مع هذا في مقدمة الدستور اللبناني.
امام الافعال الايمانية للسستام اللبناني ككل، ولطليعته المصرفية المركزية، وطليعته الجهادية الخمينية المواكبة، وقوانين الايمان الاكثر غموضا للاجهزة الأمنية التي احتكت مؤخرا ببعضها البعض على خلفية ملف المسرحي زياد عيتاني، وظهر في معرض هذا الاحتكاك «ما قل ودل» والخافي اعظم، امام كل هذا التذرير في شرائط تجديد معاش اللبنانيين، وكل هذا التدهور في اسس التعاقد الاجتماعي فيما بينهم، ستقفز من رأسك، او من الذاكرة، تلك اللازمة التروتسكية، التي كثيرا ما بدت مضجرة ومملة في ادبيات تنظيمات اواخر القرن الماضي، من ان الازمة هي «ازمة وعي وتنظيم»، اي ازمة غياب الحزب الثوري القادر، في النطاق اللبناني، على احداث «القطيعة».
لكن تلك اللازمة التي رددتها التنظيمات التروتسكية الصغيرة مطولا قبل ان يأخذ بعضها روح العصر في اوروبا الغربية، ويقلع عن فلسفة «القطيعة» لصالح تمارين الكر والفر، والحفر والنخر، والاعتصام مع الجموع، تبدو اكثر فاكثر شرط اي فعل له مغزى يعي ان الانهيار الشامل للسستام اللبناني لن يبقى إلى ما لا نهاية ينتظر البدائل الاصلاحية التي لن تأتي إلا خاملة وفاقدة لشروطها.
لا معنى لاي مقاربة ساخطة على الاوضاع المتردية للسستام اللبناني، وعلى تحول انهيار هذا السستام للاطار الذي تطور فيه ايامنا الراهنة، من دون البحث عن شروط امكان وامتناع قيام هذا الحزب الثوري القادر على نفض الاوضاع اللبناني من اساسها، بعد ان تعاقب كل من الحزب الشيوعي وحزب الله والقوات اللبنانية في العقود الماضية، كل من موقعه، على اظهار خطل من علق املا على هذه النماذج الثلاثة الاكثر تنظيميا في تاريخ التشكيلات اللبنانية، في اوقات مختلفة، بأن ايا منها هو «الحزب الثوري» على طريقته. ليس هناك في لبنان اليوم من تشكيل يستهدف استشراف مسار الامور في افق الانهيار الآتي، بل البادىء. هذه التجارب الثلاث اقتربت، من يمين او يسار او من رصيد الخمينية، في سنوات سابقة، للتشبه بفكرة الحزب الثوري. لكن هذا التشبيه صار شبه مستحيل، بل مبهبط عليها اليوم. مثلما انه، في المقلب الاخر، صار يكرر نفسه بلا طائل البحث عن اطر وهيئات «مدنية»، صدق اقترابها من يافطتها او ابتعد، كبدائل عن السستام، انما بدائل تختزل مشكلته إلى لعبة القط والفأر بين «الطبقة السياسية» و«الناشطين»، في ضوء الانصياع الكامل لجردة الافعال الايمانية الآنف ذكرها.
لا يمكن بطبيعة الحال، التطوع في لحظة شاردة، لوصف كل معالم هذا الحزب الثوري المبتغى والضروري. كل ما يمكن القول في امره الآن، ان من يستشرف انهيار السستام اللبناني، كما عهدناه، اقله منذ نهاية الحرب، عليه التفكير اقله، والتفكير بشكل يومي اكثر فاكثر، بأنه الحاجة إلى حزب ثوري متمسك بفكرة القطيعة، مقدار تمسكه بفكرة السياسة، بكل ما تستدعيه من ميكيافيلية، هي حاجة لا يمكن الاستهزاء بها، لا في لبنان ولا في اي بلد آخر. وفيما يتعلق بلبنان تحديدا، الحاجة إلى التفكير بشروط ايجاد الحزب الثوري تكاد تتماهى مع الحاجة إلى التفكير بشروط حماية الوجود اللبناني نفسه.. من السستام اللبناني الذي ينهار، نعم ينهار.