فلاديمير بوتين، اندفع نحو شرق البحر المتوسط كي يفرض شروطه حول الحل في سوريا ومستقبلها، وفكر أنه عبر التلاعب بالانتخابات الأميركية ينهك الخصم في واشنطن
 

عشية الانتخابات الرئاسية المحسومة سلفا لصالحه والاستمرار في منصبه لولاية رابعة، يُعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الشخصيات المحورية في السياسة الدولية إبان حقبة التخبط الإستراتيجي.

منذ بداية هذا القرن قاد فلاديمير بوتين روسيا واكتسب لقب “القيصر الجديد” الذي يتبرم منه. لكن عندما يقول نائب رئيس المكتب الرئاسي الروسي إنه “ليس هناك وجود لروسيا من دون بوتين”، تتضح لنا معالم طموح سيد الكرملين في تحويل روسيا إلى بلد مستقر نسبيا وإعادة الثقل السابق لموسكو على الساحة العالمية، ويتمثل ذلك بالانتقام مما اعتبره “الخطأ الجيوبوليتيكي الأكبر في القرن العشرين” أي “نهاية الاتحاد السوفياتي”.

في هذا السياق كان خطاب بوتين في الأول من مارس، الذي تضمن النقاط الأساسية في برنامجه الانتخابي واستغرق لمدة ساعتين أمام جلسة مشتركة لأعضاء البرلمان الروسي بمجلسيه، استعراضا قيصريا برسم الناخب الروسي ورسالة موجهة إلى الولايات المتحدة على متن “صاروخ مجنح لا يقهر يمكنه أن يصل إلى أي مكان في العالم”.

في السباق الجديد للتسلح بين قطبي الحرب الباردة السابقة، تلوّح روسيا بوتين بالتفوق الباليستي النووي، ومن خلال الأزمة الأوكرانية والحرب في سوريا والتلاعب بالانتخابات الأميركية تسعى للإيحاء بأنه لا يمكن الالتفاف عليها. نتيجة ذكريات الفشل الروسي إزاء “حرب النجوم” (درع الصواريخ) التي أطلقتها واشنطن في عهدي رونالد ريغان وجورج بوش الأب، وكانت المدخل لحسم سباق التسلح لصالحها في منتصف ثمانينات القرن الماضي، ركز بوتين في خطابه على أن الدروع الصاروخية الأميركية في أوروبا وآسيا لا يمكنها إيقاف الصواريخ الروسية الجديدة.

إذن أرادت روسيا الرد على “حرب النجوم الجديدة” وعلى انتشار حلف شمال الأطلسي قرب الحدود الروسية، وأن تعطي الانطباع بأن العقوبات المفروضة عليها بسبب أوكرانيا لم تؤثر عليها.

لكن في الشق الاجتماعي الاقتصادي من خطابه أقر الرئيس الروسي بأن “التأخر عن العالم هو التهديد الأكبر الذي تواجهه روسيا”، وأضاف “لا يجب التأخر في المجال التقني لأن ذلك يؤثر على أمن الدولة”، بيد أنه أغفل ذكر الإصلاح وموجباته ولم يتطرق إلى آفة الفساد، بل حاول تغليف ذلك بإبراز مسعاه في تطوير الريف والمناطق الروسية النائية وجعل روسيا مركزا عالميا للمعلومات.

ما لم يقله الرئيس الروسي أن معدل النمو السنوي في روسيا بلغ 1.5 بالمئة في 2017 (معدل النمو الاقتصادي العالمي لنفس السنة حسب صندوق النقد الدولي راوح 3.6 بالمئة)، وهكذا فإن الاستثمار في سباق النفوذ العالمي يتم على حساب رخاء الشعب الروسي وتقدمه الاقتصادي أو الاجتماعي، وهذا كان بالضبط أبرز نقطة ضعف أو “كعب أخيل” الاتحاد السوفيتي السابق.

خلافا لنهج الصين في الصعود المدوي من خلال “القوة الناعمة” بشكل تدريجي، يريد بوتين مجاراة الولايات المتحدة في سباق “القوة الصلبة والفظة”، وشدد في خطاب الأول من مارس على أن روسيا تسبق الدول الأخرى بخطوة في ما يتعلق بتصنيع السلاح الذي يعتمد “المبادئ الفيزيائية الجديدة” (منظومات الليزر القتالية).

يأتي ذلك في ظل سيطرة شبح “روسيا غيت” على إدارة دونالد ترامب وتدحرج الصلات بين موسكو وواشنطن إلى توتر غير مسبوق في مسارح عدة. وفي هذا الإطار وصف بوتين العقيدة النووية الأميركية الجديدة بالمقلقة، وقال إن منظمة حلف شمال الأطلسي تبني دفاعات على الحدود الروسية ولكنّ “الصناعات الروسية ستجعل من تلك الدفاعات غير فعالة”.

من أجل إعطاء صدقية لاستعراضه القيصري، لم يتورع رجل المخابرات السابق عن استخدام اللغة الفجة ورفع من لهجته متوجها للأميركيين والغربيين “إن محاولاتكم إزعاج ومنع وعرقلة تقدم روسيا لم تنجح وإن تعزيز قدرات روسيا تم استكماله”، وأضاف متحديا “لم يشأ أحد التحدث معنا أو الإنصات إلينا. استمعوا إلينا الآن”.

وللتدليل على ما يعده اختراقا كبيرا، أعطى بوتين مثلا العملية الروسية الجارية في سوريا والتي أظهرت زيادة قدرات بلاده الدفاعية، مخاطبا النواب الروس “العالم يعرف الآن أسماء كل أسلحتنا الرئيسية بعد عملية سوريا”.

وفي الوقت ذاته، عرض الرئيس الروسي صواريخ ثقيلة عابرة للقارات وصواريخ كروز الموجهة وطوربيد من نوع جديد، موضحا أن بلاده طورت سلاحا جديدا “أسرع من الصوت” ولا ترصده الأنظمة المضادة للصواريخ، مضيفا “إنها أنظمة استراتيجية جديدة لروسيا طورناها ردا على الخروج أحادي الجانب للولايات المتحدة من معاهدة الدفاع الصاروخي والنشر الفعلي لمثل هذه الأنظمة في منطقة الولايات المتحدة وخارج حدودها”. وقال بوتين إن صاروخ “سارمات” بعيد المدى ليس له مدى محدد وإنه يزن أكثر من 200 طن. وتوعد بأن بلاده ستعتبر “أي استخدام للأسلحة النووية ضد روسيا أو حلفائها هجوما نوويا على بلادنا، وسيكون الرد فوريا”.

إنها إذن العقيدة الهجومية لسيد الكرملين وهو يستند إلى تكتيك نجح معه إثر ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وحينها ما كاد يلوح باستخدام ترسانته وربما بينها السلاح النووي حتى هرع الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نحوه ورتبوا اتفاق منسك حول أوكرانيا.

بيد أن أسلوب بوتين المحارب المختال، الذي استفاد من الارتخاء في حقبة باراك أوباما ومن الانكشاف الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، ليس من الضروري أن ينجح في حقبة صعود الخطاب المعادي لروسيا ضمن المؤسسات الأميركية، أو في مواجهة الحذر الأوروبي المتزايد من اندفاع بوتين.

ولذا جاء الرد الأميركي على استعراض القيصر مقتضبا ودقيقا من خلال البنتاغون الذي أعرب عن “عدم تفاجئه بمزاعم موسكو حول امتلاك الأسلحة النووية الجديدة”، مؤكدا الاستعداد لكافة الاحتمالات.

والمثل الملموس المؤكد أن طائرات أف 35 الأميركية من الجيل الخامس موضوعة بتصرف الجيش الأميركي منذ سنوات، بينما تستعرض موسكو للتو إنزال طائرة مشابهة من طراز سو- 57. وهذا يدلل على فارق زمني في التفوق والنوعية لصالح واشنطن.

فلاديمير بوتين، اندفع نحو شرق البحر المتوسط كي يفرض شروطه حول الحل في سوريا ومستقبلها، وفكر أنه عبر “التلاعب بالانتخابات الأميركية” ينهك الخصم في واشنطن. لكن هذا التلويح والتهديد بعالم أكثر خطورة، لن يصبا حكما في مصلحة موسكو. إنها الروليت الروسية مع القيصر الجديد.