غادر مساعد نائب وزير الخارجية الأميركية دايفيد ساترفيلد لبنان إلى جنيف في «مهمّة غامضة» طالما أنها لا تشكل محطة متمِّمة لما قام به في المنطقة. وإذا صحّ أنّه كان مطمئنّاً بعدما جمَّد التداعيات المتوقّعة للجدار الإسمنتي إن بُنيَ على أراضٍ لبنانية متحفَّظٍ عليها، وادّعاءاتِ إسرائيل بحقّها في مساحاتٍ من البلوكات النفطية، فقد طرح السؤال هل من ضرورة للعودة؟ ومتى؟
 

يعتقد المراقبون العارفون بكثير ممّا تمّت مناقشتُه بين ساترفيلد والمسؤولين اللبنانيين والإسرائيليين، أنّ المهمة العاجلة التي قام بها خلال الأسبوعين الأخيرين في المنطقة، وما بين بيروت وتل أبيب، قد أدّت الغرض منها ولو بالحدّ الأدنى الذي توقّعه ومعه الفريق الذي جمع أوراق وخرائط الملف المفتوح على أكثر من سيناريو منذ أعوام عدة.

فالعودة الى حصيلة ما حقَّقه أسلافُه من الموفدين الأميركيين فريديريك هوف وآموس هوكشتاين وما انتهت اليه مهمّتهما في بيروت وتل أبيب لم تكن توحي بإمكان تحقيق أكثر ممّا حققته الجولة الأخيرة من المفاوضات.

ومردّ ذلك إلى المواقف اللبنانية المتشدّدة التي رسمت سقوفها على كل المستويات الحكومية والسياسية والنفطية في مقابل التشدّد الإسرائيلي من مشكلتي البرّ والبحر، ولم يتّفقا سوى على نَبذ ما يؤدّي الى استخدام القوة أو قيام أيّ طرف بما يؤدّي الى مواجهة عسكرية بين جيشي البلدين، وهو ما أراده الوسيط الأميركي في الدرجة الأولى.

والدلائل على ذلك كثيرة، أقلّها تلك المتّصلة بحصر أعمال بناء الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلّة دون الإقتراب من النقاط المتحفَّظ عليها لبنانياً كما تبلغت اللجنة الثلاثية التي انعقدت بأدنى مستوى تمثيلي في إحدى قاعات مقرّ قيادة القوات الدولية في الناقورة يوم الخميس الماضي.

أضف الى ذلك الحديث الذي بدأ يتسرّب من الجانب الإسرائيلي عن تجميد العمل بالجدار كلياً في بعض المناطق التي بوشرت أعمالُ البناء فيها، عدا عن تراجع التصريحات التي تتناول الوضعَين في البرّ والبحر الى الحدود الدنيا.

ولا يُهمل المراقبون عند البحث في ما قاد الى تجميد الوضع بالشكل القائم حالياً، أهمّية المشاورات التي قادها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مع كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة سعد الحريري وحال الإستنفار القصوى التي اتّخذتها وحدات الجيش على طول الحدود الجنوبية لمواجهة أيّ اعتداء.

وكلّ ذلك تمّ في وقت قياسي استفاد منه لبنان لطيّ مرحلة الخلافات الداخلية ولتحديد موقف موحَّد من المواقف الإسرائيلية ولا سيما تلك التي أطلقها الوزير افيغدور ليبرمان في أسوأ توقيت عندما ادّعى بملكيّة إسرائيل مساحاتٍ واسعة من البلوكات النفطية اللبنانية عشية الإحتفال بتوقيع اتفاقيّتَي التنقيب عن النفط والغاز بين وزارة الطاقة والثلاثي من الشركات الفرنسية، الإيطالية والروسية في 9 شباط الماضي.

وزادت من مناعة الموقف اللبناني طريقة ترجمة التفاهمات التي تمّت على أعلى المستويات في اجتماعات المجلس الأعلى للدفاع الذي حدَّد السقوف الدنيا والعليا للموقف اللبناني، ما دفع الى تجميد كل الخطط الإسرائيلية الإستفزازية التي كان الجانب الأميركي يخشاها وردّات الفعل اللبنانية عليها، والتي كان يمكن أن تؤدّي الى التسبّب بعمل عسكري لتجميد ومنع بناء الجدار الإسمنتي إذا اقترب أو بني على شبر واحد من النقاط المتحفَّظ عليها لبنانياً. وهو ما أدّى الى سحب فتيل التفجير الذي كان يحتسبه الجانبُ الأميركي ممكناً في أيّ لحظة.

فهناك مَن همس في أذن الموفد الأميركي أنّ تجربة «شجرة العديسة» التي شهدتها المنطقة الحدودية عام 2013 واردة في أيّ لحظة، إذا ما امتحَنَ الجانبُ الإسرائيلي الجيش اللبناني في أيّ بقعة متحفَّظ عليها، وهو ما أعارَه المسؤول الأميركي أهمية قصوى الى جانب المخاوف التي عبَّرت عنها قيادة «اليونيفيل» التي ترعى اجتماعات الناقورة وهي أدرى بالمواقف المتبادَلة بين الطرفين.

على هذه الخلفيات إطمأنّ الجانب الأميركي الى استحالة وقوع ما يؤدّي الى أيّ انتكاسة أمنية تتسبَّب بها أيُّ مواجهة بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي برّاً، في وقت رأى أنّ هناك المزيد من الوقت لمواجهة الإشكاليات البحريّة المحتمَلة، وهو ما دفعه الى تغييرٍ تكتي في خريطة تحرّكاته في المستقبل القريب مطمئنّاً الى الهدوء المتوقّع برّاً، ليتفرّغ لمهمات أخرى ولمواجهة أيّ جديد.

وفي هذا الإطار، كشفت مصادر واسعة الإطلاع أنّ ساترفيلد عبَّر عن نيّته أمام مجموعة صغيرة من المقربين منه بأنه لا بدّ من التوسّع في المشاورات في اتجاه شركاء آخرين لطرفي النزاع البحري في بيروت وتل أبيب. وعليه، فإنّ ساترفيلد، الذي غادر الى جنيف في مهمة مختلفة، سيباشر قريباً اتّصالات ديبلوماسية مع كلّ من باريس وروما وعواصم أخرى على علاقة مباشرة بالورشة النفطية في المياه اللبنانية.

وهو أمرٌ قد يكون ممكناً على هامش التحضيرات للمؤتمرات الدولية الداعمة للبنان في «روما 2»، حيث سيجري البحث في سبل تعزيز قدرات الجيش والمؤسّسات الأمنية، وفي «سيدر واحد» المخصَّص للأوضاع الإقتصادية اللبنانية في إطار مشاريع الـ16 مليار دولار، وصولاً الى مؤتمر «بروكسل 2» المخصَّص لمواجهة انعكاسات أزمة النازحين السوريين في لبنان ودول الجوار السوري.

وقبل كل هذه المحطات، فقد أُحيط الجانب الأميركي علماً بالزيارة التي يُزمع وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان القيام بها الى طهران في 5 آذار المقبل والتي تهدف الى تنبيه القادة الإيرانيين من مخاطر اللعب بالنار في جنوب لبنان وإمكان أن تؤدّي أيُّ «دعسة ناقصة» الى جرّ لبنان والمنطقة الى حربٍ من نوع آخر، إذا ما استمرّت في سياسة التحرّش بإسرائيل، وهو أمرٌ لن يكون مردودُه إيجابياً على لبنان والمنطقة.

وتأسيساً على ما تقدّم، تبدو المهمة الأميركية في لبنان في فترة استراحة، ربما كانت طويلة، وقد تمتدّ الى ما بعد الإنتخابات النيابية المقبلة المقرّرة في 6 أيار المقبل والتي تتزامن مع استحقاقات مماثلة في أكثر من دولة في المنطقة، مع إمكان تأجيل البتّ بما هو عالق الى مرحلة لاحقة، وعندها لن يكون ساترفيلد مضطراً للعودة الى بيروت قريباً.