ما الذي يتوخاه «حزب الله» من الانتخابات النيابية؟ إنه أقل الحزبيات اللبنانية توجّساً منها على ما يظهر. يقارع نسبة المشاركة أكثر مما يقارع أخصاماً انتخابيين جديين في المناطق ذات الكثافة الشيعية. ندّه الأساسي في طائفته، حركة أمل، حليفه على اللوائح المقفلة المشتركة، وقد بكر الثنائي في إعلان أسماء المرشحين.
يعتبر الحزب نفسه الرابح الأكبر بمجرّد إقرار قانون الانتخاب الحالي، وطي صفحة القوانين الانتخابية القائمة على النظام الأكثري المتعدد الأسماء. لم يستبعد مع ذلك أن يعود عليه القانون بعدد نواب أقل قليلا مما كان له في البرلمان السابق. نفى من جهة ثانية أنه يخوض الاستحقاق من خلفية ابتغاء تحقيق أكثرية مطلقة من عدد المقاعد له ولحلفائه من شتى الطوائف. سبق له أن ناضل من أجل ذلك في الانتخابات الماضية، قبل تسع سنوات، تحت شعار «إعادة تشكيل السلطة» في لبنان، ولعب الخوف من حصول الحلف الذي يقوده على أكثرية برلمانية دورا مهما في حث الجمهور المناوىء له على الاقتراع، آنذاك، لجمهور 14 آذار. اليوم، يستفيد الحزب من عدم إثارة إشكالية «لمن تذهب أكثر المقاعد في المجلس المقبل؟» من معظم الذين يخوضون السباق حالياً، بخلاف محورية هذا «الهمّ» في الاستحقاقين السابقين، وبخلاف اهتمام المتابعة السعودية والأمريكية بهذه المسألة، في هذا الاستحقاق أيضاً.
ينفي الحزب عن نفسه اليوم إنه يرصد لحصد أكثرية المقاعد لصالح ائتلاف جبهوي يقوده. ليس هذا النفي مجرّد تلبيس لهدف يسعى إليه. إنه أيضا إقرار بجملة وقائع، منها إن حكومة ما بعد الانتخابات لن تتشكل على أساس ائتلاف حصد أكثرية المقاعد في مقابل ائتلاف حصد أقليتها، بل ستكون أشبه بالحكومة الحالية. ومنها أن حليفيه الأساسيين، تيار الرئيس ميشال عون وحركة أمل برئاسة الرئيس الدائم لمجلس النواب نبيه بري، ما عاد من الممكن إدراجهما في ائتلاف عريض مشترك كما كانت الحال قبل تسع سنوات. ومنها أن جبهة «قوى 14 اذار» أصبحت في خبر كان، وفلولها يخوضون الاستحقاق ضد بعضهم البعض، ويتهمون بعضهم البعض بالتواطؤ مع الحزب، ويخلقون واقعا مشتركاً من التواطؤ الموضوعي المتفاوت مع تغلبية الحزب السلكي – الجماهيري المسلح الموالي لإيران. والحزب لا يفعل شيئا هنا، ولا مصلحة لديه في فعل شيء قبل الانتخابات، سوى ترك التناقضات بين أخصامه وضمن أخصامه تتداعى من تلقائها، سواء حين يقررون «غسل» بعضهم بعض، أو حتى إذا قرروا بشكل جزئي، «الالتمام» على بعضهم البعض. مصلحته في أن يضعف أخصامه أكثر، وهذه بداهة. لكن مصلحته أن لا يضعف أكثرهم فوق اللازم.
مع كل ما يقوله المستاؤون من انخراط «تيار المستقبل» و«القوات اللبنانية» في عقد التسويتين الرئاسية (انتخاب عون) والحكومية، تبقى المصلحة الأساسية الانتخابية للحزب في مواجهة هذين التشكيلين بالدرجة الأولى، وليس أي تشكيل ثالث، في حين أنه، وبفعل التقسيمات الانتخابية والقانون، فإن أكثر خوضه للانتخابات «بمعزل عنهما»، مثلما أن إشكالية «سلاحه» لم تعد على رأس البرامج الانتخابية، وحتى حين «تروّس» بها البرامج، فعلى طريقة «ترويس» الحزب الاشتراكي الفرنسي برنامجه الانتخابي بفكرة «الاشتراكية».
بمعنى من المعاني يمكن القول إن «حزب الله» وصل إلى «نهاية التاريخ»، ضالته، على الصعيد اللبناني. لم يعد هناك بالنسبة له مرحلة تالية، مختلفة جوهريا، عن المرحلة الحالية. في بداياته، كانت «نهاية التاريخ» يمكن أن ترادف، لبنانيا، بالنسبة إلى الحزب، قيام «الجمهورية الإسلامية» في لبنان. لم تعد هذه الغائية برنامجية في مقال الحزب، واستبدلت بأن يكون للحزب «تحكم فوق القانون» بالمفاصل السيادية، ومسائل الحرب والسلم.. من دون إحلال نظام بديل عن نظام المحاصصة بين الحزبيات الطوائفية، وإنما استطابة «ميثاقية» هذا النظام، حين يوافقه ذلك، واشتراطها ميثاقية توافقية مطلقة حين تناسبه، والضرب بها عرض الحائط حين تعرقل مساعيه أو تعقّدها. ميكانيزمات «التحايل الدائم» على «الصيغة اللبنانية» التي هي، من هذه الناحية، بمثابة «الحيلة الدائمة»، هي ما يبطل أيضا الحاجة، ومعها الدافع، إلى بلورة نظام خلاصي، مهدوي، للبنان، يكون على صورة عقيدة الحزب، ونموذجه المتخيل أنه محقق، في أيران.
تمرّس الحزب في السنوات الماضية في هذا التعاطي المزدوج مع «الصيغ التوافقية اللبنانية»، مسخّرا ما بها من اعتباطية مزمنة لصالحه. لكن هذه الصيغ أظهرت أيضاً حدود ما يمكنه فعله في البلد، حتى عندما لا يكون مواجهاً من تحالف عريض مناوىء له، كالذي كان. مثلا، صار من السهل عليه تكريس إنه الطرف الأساسي المقرر في انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان، لكن ليس من المطروح التعديل في عرف مارونية هذه الرئاسة (ناهيك عن التذكير بطرح ساقه الشيخ عبد الأمير قبلان قبل سنوات يتعلق باستحداث منصب نائب رئيس للشيعة)، ولن يكون سهلا عليه أيضا ترجيح الكفة بين حليفين له، كجبران باسيل وسليمان فرنجية، بالنسبة للسنوات التالية. ليس من المطروح تجاوز الرئيس نبيه بري طالما هو رئيس المجلس، لكن لن يكون سهلا تسوية هذه المسألة بعد ذلك. لم يعد من المطروح إعادة فرض سني لرئاسة الحكومة بعد تجربة حكومة نجيب ميقاتي، والحزب «اكتشف» أن مصلحته بالعكس، تتقوم في إبقاء هذا المنصب عند الأقوى ضمن الطائفة السنية، في مقابل إبقاء «عقدة تشكيل» الحكومة عند الحزب، بشكل أو بآخر.
يخطىء أخصام الحزب حين يتوهمون أن الحزب لا يقنع بكل هذا ويريد السيطرة الكاملة، بل الهيمنة الشاملة، على نظام يتيح له التحكم شبه الكامل باللعبة، ويتيح له تيسير أو تعطيل قوانين اللعبة، من دون فرض قوانين فعلا جديدة على اللعبة. لكنها بالفعل، «نهاية التاريخ» لدى الحزب، على الصعيد اللبناني: ليس من مرحلة أفضل له من هذه المرحلة، وهذه المرحلة بالنسبة له مرشحة للامتداد «إلى اطول مدى ممكن»، ويمكن التعويل فيها على تطبع الناس أكثر مع الأوضاع القائمة، لكن لا يمكن التفكير بتبديل جوفي، أساسي، لقوانين اللعبة، على طريقة إقامة نظام «حزب اللهي» طهوري في لبنان، مثلا. المشكلة تبدأ من أن ايديولوجيا الحزب غير متطبعة كفاية مع الإقرار بأنها بالفعل أنجزت «نهاية التاريخ»، من منظارها لبنانيا، وأنه من الآن فصاعدا، السيطرة القصوى، التحكمية بالمفاصل وقواعد اللعبة، مستتبة بلا قلق، ولا داعي لطلب ما هو أكثر جوهرياً من ذلك، وإنْ جاز «التوسع الطبيعي» في المكتسبات، أي معالجة ضعف الحلفاء والأخصام، والاحتراز من أي ضعف فوق اللازم، أو أي ضعف مباغت أو غير متوقع، لهؤلاء.
صحيح أن الحزب نحى «الطابق المر» السابق (الجمهورية الإسلامية) عن عمارته اللبنانية المنشودة، لكنه ظل يضع مكانه صيغا يوتوبية «ناسوتية» من مثل «الدولة القوية القادرة»، في حين أن الدولة المثلى عملياً بالنسبة إلى الحزب، هي الدولة القائمة حالياً. أي محاولة من طرف الحزب، أو أي ضغط من طرف الجماهير الشيعية، لثنيه عن نموذج الدولة المثلى عمليا، بالنسبة له، أي القائمة حاليا، ستعود عليه بالمشاكل.