يُعيدنا جوزف حرب ببراعةٍ فنية في ديوان "شيخ الغيم وعكّازه الريح" إلى أوّليات الأسئلة التي تفرضها ذاتيّة المغامرة وخصوصيتها الرحبة، بما تختزنه من عبثٍ طفولي عميق، وما تضخّه فينا من سحرية اللعب الشعري بالزمن والعالم، والقسوة الكاشفة في ذلك، فنتهامس ملء الروح: هل تنتهي الحياة بطقس التذكّر، أم تبدأ به وتستمر؟! وهل يفرد الشاعر أجنحته التخييلية باعتباره ذاكرة للماضي أم ذاكرة للمستقبل؟!

تحمل القصائد في كثير من مرتكزاتها الجوهرية ملامح رومنطيقية، وينطوي غرقها في مناخات الانفعال الوجداني على تطرُّف بالغ الجمال، ولا سيما قد احتفظت بحرارتها الطفلِّية المتأجِّجة، كَأَنْ لا زمن تقدم وبدَّدَ التَّوق الأول. فالعوامل المشيّدة تبذل نفسها في الزمن الماضي، مذابةً في عناصر الطبيعة / الأصل، أو مذابةً فيها تلك العناصر، وصولاً إلى الذروة التي نقتحم فيها ملكوت الكشف السحري الفانتازي انطلاقاً من محسوسات الماضي، أو بالأحرى انطلاقاً من مساكنة تلك المحسوسات في الذاكرة.

ذلك كلّه، تنهض به لغة سهلة مؤنَّقة، تتنزَّه عن أعباء التراكيب الفخمة، وتنأى عن الصخب الفارغ، من دون أن تفقد أريستوقراطيةً جمالية - متّصلة بخصوصية التجربة والرؤيا- ذات دفق وترداد متّسق، كسيل يعبر مجراه في اتجاه معاكس، ملتقطاً في كل لحظة شعرية ممكنة ما يستطيع أن يغرفه من روائح تعبق بها الذاكرة، خاصَّةً في برزخها الطفولي المركّب، ناقلاً من كمون القوة إلى وجود الفعل كل ما يُستحضر ويُجمَّع ويُعاد تركيبه أو يُمعَن في تفكيكه أكثر، من ظلالٍ نفسية وانعكاسات وهواجس ضاغطة ورؤىً وانطباعات ذات رصيد تاريخي/شخصي حيّ، غنيّ ومُتجدِّد.

بهذا، يمكن أن نصف القصائد بأنها سيرة ذاتية يتصدَّى الشعر بأدواته الفنية لتدوينها. فإذا كانت السيرة مُنجَزَ ذاكرة غير مستقلِّة، تالياً غير أمينة أو غير موضوعية غالباً، فإنها تجيء هنا - كون الجنس الأدبي بطبيعة الحال شعراً - على حامل تخييلي يخضع لطغيان سلطة الأنا، ويسعى إلى إعادة بناء العالم، بعد إعادة ترتيب الماضي، ثمَّ إخراجه مستعيناً بالطبيعة في بدئيَّتها العذراء على امتداد جزءي الديوان.

إنَّ أول تجليات هذه الاستعانة تكمن في عتبة العنوان، كونها العتبة الأولى نحو سبر معالم أي عمل فني. فالشاعر يُسند بدايةً مفردة "شيخ" إلى الغيم، معزِّزاً بذلك صفة المفارقة والرحيل، ومستعيراً من الغيم رمزية الدوران الدؤوب والتبدّد الدائم، والأهم من هذا، أنه يستبدل واقعه – الحالي والماضي- بملجأ يتمحور عليه الديوان: ألا وهو حلوله في الطبيعة، أو بالأحرى حلول الطبيعة فيه، فضلاً عن دفقة الارتواء العارم الذي يحقّقه حضور الغيم، وما يحفل به ذلك من مجازٍ عال، ومن إحالات دلالية طموحة.

تجذيراً لهذا التوجّه، لا بدَّ أن يكون للشيخ عكّازه/الدّعامة في خريف العالم، حيث الواقع بتلوّثه المُحكَم، والماضي بأخيلته المؤرِّقة. ولا تشذّ هذه الدعامة عما أراد ترسيخه منذ البداية، فهذه العكازة ليست سوى ريح! فكيف تغدو الريح عكّازة تُصلِّب الوقوف وتساعد في المسير؟! هذا ما ينطوي على دلالتين اثنتين: أولاهما ما ذكرناه أعلاه من وثوقيّة جنوحه إلى الطبيعة/الأصل، التي يُعيد من خلالها تشكيل علاقته بماضيه وحاضره معاً. أمّا الدّلالة الثانية فتقودنا إلى الاستنتاج أن هذه الطبيعة/الدعامة ما هي إلا دعامة واهية، لأنها أولاً تسكن زمن الذاكرة التي تكرِّر إحياءها، فتنمو في مسارب داخلية، يمتزج فيها مستويا التجربة الواعية، ودوائر اللاوعي، وصولاً إلى ذلك الإحياء. ممَّا يجعلها تنتمي من هذه الزاوية إلى التقليد الشعري الجاهلي القائم على سحرية الاستعادة بوصفها معادلاً رمزياً للخلود، وطقساً تعويضياً مضادّاً لصدمة الطلل باعتباره ماضياً خسِر عناصر حياته في الحاضر، أو حاضراً مَعِيشاً خسِر ماضيه، فتكون الاستعادة تحدّياً لعوامل الإفناء الزمنية عبر لعبة الالتفاف النفسي التخييلي، وتجريد الزمن مجازياً من أسلحته، وذلك بإعادة خلق الماضي، ثمَّ تثبيته مُنَقَّىً من شوائبه، ونفخ هالة تقديسية فيه، تنقله من وجوده الحسي الموضوعي إلى كينونة مثالية، يُفرِّغ عبرها الشاعر مناطق الانتفاخ المؤلمة في الذات، ومن ثمَّ يستجلب عوامل الخصوبة والدفء والاستقرار – وهذا ما يضمره ركونه السابق إلى الغيم - في مقارعة جحافل القحط والجفاف الروحي وفقدان الأمن والطمأنينة والشعور بالعجز. فمن يستند على ريح، لا يستند على شيء حقيقي واقعياً، لكنّه يستند على الكثير مجازياً وجمالياً، وفي هذا تكمن بلاغة هذه الصورة التي تنفض الغبار عن بنية التشبيه المهترئة، وتخترق جملة الدلالات الكامنة عبر تخليق أنساق إيحائية متقابلة ومتوالدة. لعلَّ التداعيات المتلاحقة تدفعنا لنستحضر هنا شطر المتنبي الشهير: "على قَلَقٍ كأنَّ الرّيحَ تحتي". فالقلق هو قلق ذاتٍ عالقة بين مطرقة الماضي: الغائب الحاضر، وسندان الآن: الخانق؛ بين ذاكرة تلحّ وتطلب الإعلاء والإنصاف بما تذخر به من وجدانيات وحرائق عميقة وشاسعة، ومحيطٍ تسوده منظومة قيم استهلاكية مشوَّهة، تفرز باستمرار آليات حصارها الشامل والمروّع.

في الجزء الأول من الديوان، "قميصي الوزَّال قبَّعتي العصافير"، يؤرخ الشاعر سيرة طفولته في الدير، مقيماً جدلية يستمد منها شحنة قصائده الانفعالية، إذ يتحقق التوتر الشعري من خلال التّضاد المرتسم بين الدير: باعتباره معادلاً موضوعياً للقمع والسجن، والطبيعة: مشكِّلةً أماناً متماهياً بالأهل، ومعادلاً موضوعياً للحرية والانعتاق.

أما الجزء الثاني فيأتي – مثل الجزء الأول- مؤتلفاً مع عنوانه، "كتاب الدمع"، فتطغى النبرة الرِّثائية على القصائد، لكنّ موقفه الإبلاغي هذا، يتحقّق أيضاً عبر مزاوجته بالطبيعة، مؤرِّخاً أطياف تصوّراته لكلّ الذين غاصوا في حفرة الماضي، من قرية وفلاحين وأُسرة وأب طواه الموت.

في الجزء الأول تكون مدرسة الشاعر الأساسية هي مدرسة الأرض، وفيها تحتشد النباتات وعناصر الطبيعة المختلفة، لتمارس واجباتها المدرسية على أتمّ وجه، وجنباً إلى جنب مع الشاعر الذي يقول: "كلَّ يومٍ،/ تدخلُ الصفصافةُ الكوفيةُ الأوراقِ/ صفَّ الماءِ، تبري غُصنها في موجهِ حتى أخذتُ البريَ عنها،/ وتعلّمتُ الكتابة./ دفتري مثلُ سماء لّونُ أيلولٍ/ عليها، ويدي/ مثلُ سحابهْ".

فعناصر البرّيَّة تشارك الشاعر هجومه الشامل على الدير، ولا يبدو ذوبانه الرعوي في طفولته/الطبيعة إلا عداءً لما هو نقيضها، أي طفولته/الدير، إذ انتهى انتماؤه الفطري إلى مدرسة الأرض بإرساله إلى مدرسة القهر، وفي الدير – الذي ينعته بالقفص- يعيش الشاعر معاناة الوحدة، والإحساس المرير بالغربة، فيطفو تبرّمه الحاد من جميع مظاهر الحصار المحيطة به، كمواعيد النوم، وتقليدية التعليم، وضيق آفاقه، وآليات الزجر الديني التربوي، مهاجماً شكلانية المؤسسة الدينية المجوَّفة، وما تعانيه من غياب الجوهر الروحي، في ظلّ سيادة الروتين الشعاراتي والطقوسي، فحتّى الله يجعله سجيناً وراء باب الدير، والكاهن يأكل الله بأكله الديك ثم ينام، وهو نفْسُهُ كاد يُطردَ في إحدى المرات من الدير لتأخُّره في دفع القسط، وقد نجح في إماطة اللثام عن هذه المادّية المهيمنة بصورة أشمل عندما صوّر بعض عادات وقيم أسرته الروحية النّقيضة لها، معلياً بذلك شأن الوجدانيات، ولا سيما في ضوء اقتران ذلك كله بالحضور الطاغي للطبيعة/البديل.

أما في الجزء الثاني فيحتفي في بانوراما واسعة بالقرية والريف وكرنفالات الطبيعة، مقترباً أكثر من تفاصيل الواقع القروي، ومتوِّجاً والده بطلَ هذا الجزء من دون منازع، في مناخ رثائي عميق الحزن. ولا تبدو علاقته بالمدينة بيروت المذكورة في بعض قصائده وديّةً، فيما يكشفه من حِراكها المادي، وشعوره فيها بالغربة والانفصال. ففي قصيدته "أيّا جارَتا" مفاضلةٌ محسومة النتائج بين قريته وبيروت، وهي تتآلف وتنسجم مع سياق الديوان، وتُذكِّر بتلك النظرة النمطية التي سادت الشعر أواسط القرن الماضي، وأبرزت الصدمة المدينية لكثير من الشعراء، ولا سيما في الشعر المصري. فالله أقرب إلى الشاعر في قريته المَعْمَرِيَّة، وجذوره تمضي هناك عميقاً كشربينة أو كحور، فضلاً عن ذلك، أنّ ما كرّس انفصامه المدينيَّ أكثر، هو اقتران بيروت بغصّته الناجمة عمّا ارتكبه فيها من خطايا في حق والده كما يعتقد، فيقسو بشدة على نفسه طالباً لعنة الأرض والأمهّات، ومستعيداً بألم تجاهله لحنين والده إلى قريته، في فعلٍ تطهيري واضح، إذ يقول: "كمْ كنتُ/ لا وردَ فيَّ، لأعشقَ أنَّكَ ترسمُ فوقَ الجدارِ/ ببيروتَ زيتونةً، أو/ إجاصهْ".

فالمناخ الرثائي المسيطر في هذا الجزء، ما هو إلا رثاء الشاعر لذاته أولاً وأخيراً، وتطهيرٌ لها، بهدف ترميم ماضيه المقلِق، أو بهدف هدمه، وإعادة بنائه من جديد، بما يحقِّق توازنه النفسي المفقود. هذا المنحى هو المحرِّك الفعلي للديوان بأكلمه أيضاً، وعليه تتأسَّس استراتيجيا القصائد في استعادة الماضي كما رأينا. إذ تتماهى ذات الشاعر الداخلية مع موجودات الماضي الخارجية، وفي مقدِّمتها الطبيعة/الأصل التي تشكّل الملجأ الأعلى لحلِّ معضلاته المزمنة، وإبطال فعل الإيلام الداخلي، وإنجاز المصالحة المبتغاة مع الماضي أوَّلاً، ممَّا يضمن له مصالحة حاضره ثانياً. فالطبيعة سواء أكانت بأصلها الأوَّلي البدائي أم الريفي الزراعي، تتجسد بالحيثيات التي خَبِرها وعي الشاعر في طوره الطفولي، فتَمثَّلها وأعاد إنتاجها معقودةَ القران على عالمه القديم، وبذلك لم يكتفِ بخلق عالم الماضي من خلال هيمنة سلطة الطبيعة وجماليتها الحرة عليها، بل إنَّه يعيد تشكيل تلك الطبيعة أيضاً، عبر دمجها بموجودات الماضي الأخرى، وفق حركة مزجيّة متبادلة. ولا تستكمل هذه الحركة استعادتها للماضي بصياغته كما كان، أو كما يظن الشاعر أنه كان – تبعاً لوعيه الطفولي الآنف الذِّكر- فحسب، بل يصوغه بالشكل الذي يرجو أن يراه عليه بوعيه الحاضر، وذلك عبر تصفيته وتنقيته ممّا يُعكِّر صفوه ليصير "يوتوبياه المطهِّرة". فماضيه السوداوي في الدير يحقنه بآليات صراع جمالي، وبنى فانتازية تخييلية حالمة، تنتهي في قصائد كثيرة بإزاحة الكابوس المضني عبر حرف التجربة الحقيقية المعيشة وتحويرها، لتصير طوع بنان الشاعر، وتحت سلطة رغباته المقموعة، ولنا في قصيدته الجميلة "السبت الأحمر" خير مثل على ذلك، عندما يقوم بمجموعة ألاعيب فانتازية ومبادلات بهلوانية، فيصير قلبه قنبلة، وشريط أيامه يغدو فتيلاً موصولاً بعروقه، وحين يشعله ينفجر قلبه، مفجِّراً الدير معه، ومعيداً كل شيء إلى أصله. فسطوح القرميد تعود إلى بائع الفخَّار، والسقف والجدران تعود إلى البنّاء، وتعود الكراسي والرفوف والأبواب إلى النجار، بينما تعود محتويات الدير من أشياء ثمينة وأوانٍ وأيقونات وأطعمة إلى الفقراء، فيما يعود الشاعر إلى أهله. هذه العودة إلى الأهل، لا تجلب الراحة إلى الطفل القابع في أعماق الماضي فقط، بل تجلبها إلى الطفل القابع في أعماق الشاعر/الآن، ومن ثمَّ فإنَّها تُسرِّب الطمأنينة والسلام الروحي إلى الشاعر، الذي أعاد بفعله التخييلي الفانتازي السابق تصريف عناصر الماضي، بالشكل الذي يوصله شاطئ الأمان النفسي في الحاضر.

بالطريقة نفسها، يتمكَّن الشاعر في معظم قصائده من إضفاء الشرعية الجمالية والموضوعية على استعادته لماضيه، ومنحها مدىً فنياً حيوياً ورحباً، وذلك بشحنها بالمناخات السحرية الفانتازية من خلال المزاوجة بين عناصر واقعية وأخرى خيالية، أو عبر مزج مجموعة عناصر واقعية لخلق بنية شعرية خيالية، ممَّا يصعّد الفضاء الفانتازي، خاصةً إذا كان مؤتلفاً مع لمسات فنية سوريالية واسعة الحضور. وهذا ما يتحقق عبر بناء عمارة نصِّية متقنة، فتتواشج عناصر القصيدة وصورها الجزئية، وصولاً إلى تشييد بنية انزياحية كلّية، تعتمد ذرىً تنويرية مفارقة ومكثّفة، وتطمح إلى تجاوز السياقات المعهودة، كما في قصيدته اللافتة "صديق"، إذ يجعلنا الشاعر نلهث وراءه طوال القصيدة لمعرفة من يكون هذا الصديق الغريب، الذي قلبَ كآبته الديرية فرحاً، فعلَّمه الضحك والسخرية والكسل في الدروس وإهمال الصلاة، ليفاجئنا في نهاية القصيدة بقوله: "ولدٌ/ كانَ صديقي، /وهوَ ما زالَ إلى/ الآنَ/ صديقي، /ولدٌ/ يُدعَى النبيذْ". وهو في هذا يتكئ على الخلخلات الإسنادية الجزئية والمتصاعدة في اتجاه خلق ما يصطلح كمال أبو ديب عليه بالفجوة (مسافة التوتر)، لذلك نلمس بكثرة المبادلات الحثيثة في إسناد لوازم الطبيعة إلى عناصر الواقع أو العكس، كما نلمح أحياناً أنسنة الطبيعة، وأحياناً أخرى نلمح ما يمكن أن ندعوه بـ "طبعنة" الإنسان، كما في صرخته الرائعة الجمال عندما يخاطب والده الراحل بقوله: "أيُّها الدَّركيُّ، أَجبْنِي: /وظيفتكَ الدَّركيُّ/ أمِ السوسنهْ؟!".

فضلاً عمّا سبق، تعتمد رواية هذه السيرة الشعرية إلى حد بعيد لغةَ القص في بلوغ غايتها الفنية، إذ يسيطر الصوت الحكائي/ الراوي على معظم القصائد، وهذا ما نلتقطه في افتتاحيات بعضها، كقوله في بداية قصيدة "السلَّم": "في الدير/ تذكَّرْتُ حكايةَ أمِّي: /ضيّعَ في طياتِ الليلِ/ فقيرٌ/ دمهُ./...". أو قوله في مطلع قصيدة "الجِنّي الأحمر": "أخبرتني جدتي/ قصةَ جنيٍّ/ يحبُّ الشمسَ/ والحنطةَ/ قالتْ:...". هكذا تتَّحد لغته السردية بطفولته/الدير، وبطفولته/ الزراعة، فيلفظ محيطه الواقعي تلقائياً، مستبدلاً إياه باللذة الناجمة عن ولوجه عالم الحكاية القائم في الماضي، مما يبرز شغف الطفل فيه بالحكاية، ورغبة الرجل الدَّفينة في بعث حكايات الماضي وتشكيلها كما يحب أن تكون عليه فيما لو عاد الزمن!

إنَّ "شيخ الغيم بعكّازه الريح" يدعونا قائلاً: هو ذا سِفر روحي عابق بموات الذكرى في زمنها الفيزيائي، وعودة قيامها الدائم في زمنها النفسي، لتنهض في كل صحوةٍ سكرى، مكللةً بالوجد، مصقولةً بالحنين، ثم لتغوص أعمق في ردهات النفس، هادرةً تتخبط، ومتوالدةً تلهث خلفَ ماهيّات سرابيّة: سحر الكينونة وعلائق الروح، ترنُّح الذكريات، المُهمَلُ والجوهري، الوهمي والحقيقي، الطفولة والموت والحرية، الماضي والمستقبل، والحاضر بما حصد، أو بما غربلَ من عناصر غضَّة بذرَها في تربة القلب حضور الناس الأكثر قرباً، وغيابهم الأقسى إيلاماً. هو المنامُ: منام جوزف حرب/ منامُنا، نتورّط به فنعجز عن الاختباء وراء أصابعنا، وقتَ يباغتنا الجمال عارياً لطيفاً، وجريئاً جارحاً، حيث نحيب الوجع نفسه، وشهوة الخلاص الأزلية نفسها.

( د. مازن أكثم سليمان - شاعر وناقد سوري)