الانتخابات البرلمانية اللبنانية على الأبواب، ولقد استعدت الطبقة الحاكمة لها بالوسائل التي تتقنها، والتي تتلخص بعبارة واحدة: الحرب الأهلية الدائمة. فنظام الحرب الأهلية الذي يرسو على توازنات إقليمية هشة ومؤقتة، لا يمتلك من أجل تجديد هيمنته سوى سلاح التلويح بالحرب. هذا هو حصاد التوتر الذي ساد في لبنان بعد التصريح المسرّب لجبران باسيل. رئيس التيار البرتقالي أشعل حرب الألوان عبر اتهامه رئيس المجلس النيابي بالبلطجة. لكن رد فعل التيار الأخضر لم يتوقف عند الرد على كلام بذيء بكلام أشد بذاءة، فإلى جانب الردود الكلامية واليافطات نزل الأمليون إلى الشارع وأقاموا عراضات بالدواليب المشتعلة والدراجات النارية والرصاص. هكذا نجح باسيل وبري في الإيحاء بأن لبنان على مشارف حرب طائفية شيعية ـ مارونية. ونجحت حملة شدّ العصب الطائفي أو هكذا يظن الأغنياء الجدد الذين يحكمون لبنان ويتحكمون بخرابه.
حفلة الشتائم والتخويف هي جزء أساسي من تركيبة نظام ائتلاف المافيات الطائفية المتعددة، شرط الائتلاف الذي يسمح بنهب المال العام هو الاختلاف الذي يغطي النهب. هذا لا يعني أن الخلافات ليست حقيقية، إنها حقيقية لأنها قائمة على مبدأ الحصص، كل فريق يريد أن يلتهم جزءا من حصة الأفرقاء الآخرين. أما السياسة فمتروكة لقرارات الحزب القائد، وأما قضايا الناس الاجتماعية والاقتصادية والتربوية فهي مؤجلة ومغطاة بالنفايات المتراكمة.
ومع ذلك يعتقد أكثرية اللبنانيين أنهم محظوظون إذا ما قارنوا أوضاعهم بالأوضاع الكارثية التي يعيشها السوريون أو اليمنيون او الليبيون، في ظل المذابح المفتوحة والمستمرة في البلدان المجاورة.
غير أن ما يفوت الصابرين على الأوضاع اللبنانية الراهنة هو أن الحرب تتخذ أشكالا متنوعة، وأن الانتقال من شكل إلى آخر بالغ السهولة. فنعيم المزبلة اللبنانية مؤقت وهو مؤهل للانفجار في أي لحظة، كما أن الطبيعة الطائفية المافيوية لنظام الحرب الأهلية تجعل من الديمقراطية ممسحة تحت أقدام زعماء القبائل الطائفية. ولعل بدعة الصوت التفضيلي التي تفتقت عنها عبقرية جبران باسيل وتبناها الجميع من حزب الله إلى القوات اللبنانية إلى تيار المستقبل إلى آخره، قامت بإفراغ فكرة النسبية من مضمونها. هدف النسبية هو الاقتراع للبرامج السياسية والاجتماعية لا للأفراد. لكن الصوت التفضيلي كفل بتحويل اللوائح الى أضحوكة، مفسحا في المجال أمام ائتلافات لا تمت إلى البرامج بصلة، ومعيدا انتاج نظام المقاطعجية الانتخابي. وخير دليل على ذلك هو ارتباك قوى الطبقة الحاكمة في تشكيل لوائحها وصوغ تحالفاتها.
ما يعنينا ليس هذه الطبقة المستبدة بل قوى الاعتراض والمعارضة الديمقراطية والعلمانية، التي يسعى بعض أطرافها إلى البناء على تجربة النضال التي خاضها المجتمع المدني من أزمة النفايات الشهيرة الى الانتخابات البلدية إلى آخره. الخوف هو السقوط في اللعبة بهدف إيصال مجموعة صغيرة من النواب او نائب واحد على الأقل إلى المجلس النيابي.
غير أن ما يفوت هذه المجموعات هو أنها اليوم في صدد الانتقال من نضال مطلبي محدود إلى العمل السياسي، ومن أطر الجمعيات الأهلية التي أطلق عليها اسم المجتمع المدني إلى أطر سياسية، ومن منطق الحملات الظرفية المتعلقة بمسألة اجتماعية كالنفايات او العنف ضد النساء إلى مشروع سياسي مستمر يقدم للناس خيارا آخر.
ما تم حتى الآن هو إنشاء تجمع عام أطلق عليه اسم «وطني»، وهو تجمع يضم لفيفا من جمعيات المجتمع المدني وعناصر من الحملات المختلفة، من حزب «سبعة» الذي يملك الكثير من الامكانيات المالية إلى أفراد من «بيروت مدينتي» الى عناصر من حملتي «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب» إلى آخره…
اعلن هذا التجمع عن وجوده من خلال ورقة سياسية تقول كل شيء كي لا تقول شيئا. أي أن هذا الورقة جاءت نتيجة تسويات مضنية بين أفرقاء لا يمتلكون رؤية سياسية موحدة، وهدفها تركيب إطار مستعجل بهدف ايصال بعض أفرادها الى المجلس النيابي.
البلبة وسوء التقدير والتعامل مع السياسة وكأنها حملة مؤقتة وعقلية الكشافة الممزوجة بطموحات بعض رجال الأعمال، هي السائدة اليوم، عبر البحث عن تحالفات مركبة بشكل سريع، تتجنب الغوص في المسائل الشائكة على المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية.
واللعبة هي مجرد تحايل، بدل الدولة العلمانية يرتفع شعار الدولة المدنية، وبدل سحب سلاح المليشيات كلها (وكلنا يعلم ان المليشيات المسلحة موجودة في كل مكان) وعلى رأسها حزب الله الذي صار ذراعا عسكرية لقوة إقليمية هي إيران، تجري غمغمة المسألة باعتبارها مسألة أكبر من لبنان، وبدل الكلام عن العدالة الاجتماعية ووضع حد لهيمنة المصارف على الاقتصاد اللبناني يتم استخدام كلمة نظام ضريبي عادل، وبدل معالجة أزمة التعليم العام واجتياح الطوائف للتعليم وتدمير الجامعة اللبنانية يجري الكلام بلغة عمومية لا تزعج الطائفيات المهيمنة، وبدل الكلام عن فصل الدين عن الدولة والحريات الفردية وحرية المرأة وحقها في إعطاء الجنسية لأولادها، وبدل الكلام الواضح عن العنصرية ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعاملات والعمال الأجانب التي هي نتاج عنصرية النظام الطائفي، يجري الكلام عاما بحيث لا يزعج احدا. أما الحرية في اختيار الهوية الجنسية فلا ترد لأنها تزعج الأخلاق المسيطرة.
ميزة الورقة السياسية هي أنها ورقة غير سياسية، إنها مجرد تأجيل لكل القضايا الشائكة والتركيز على مسألة واحدة هي الفساد وكأن الفساد ليس نتيجة بنية نظام الحرب الأهلية الطائفية الدائمة.
ليس معيبا أن يطمح جيل جديد من الطبقة الوسطى إلى العمل العام، لكن مهلا أيها الرفيقات والرفاق، فإذا كان من هدف لخوض الانتخابات فهو بناء حركة شعبية سياسية، لأن الوصول إلى السلطة او المشاركة فيها اليوم، وفي ظل موازين القوى الراهنة، هو الوهم بعينه.
نحن في مرحلة بناء المجتمع السياسي اللبناني الذي حطمته الحروب، وهذا لا يتم الا عبر الوضوح ومن خلال فكر متماسك ليس أسير الماضي ولا يكرر أخطاءه، بل يسعى إلى بناء الوطن من خلال فكرة المواطنة، ويقطع مع بقايا نظام الوصاية السورية، ويعلن خروجه عن منطق الطوائف ويحمل موقفا واضحا ضد الدولة الصهيونية العنصرية ويعلن بوضوح رفضه للاستبداد في المشرق العربي ويقاوم كل اشكال الفاشية والعنصرية والطائفية.
خطأ هذه الدوامة من الحماسة للمشاركة في الانتخابات بمن حضر وبما تيسر من كلام، هو أنها ستكون طريقا ذا اتجاه واحد نحو الاحباط والشعور باللاجدوى، فهل من وسيلة لتصويب المعركة الانتخابية ام أن الأوان قد فات؟