سؤالان كبيران يغيبان عن المعركة الانتخابية التي يستعد لها لبنان:
السؤال الأول هو عن الحرب التي يخوضها لبنان في سورية، فلبنان شئنا أم أبينا طرف فعلي وقد يكون أساسيا في الحرب الطاحنة التي تدور في سورية. وهي حرب شاملة تشارك فيها قوى دولية وإقليمية بجيوشها النظامية وشبه النظامية.
ولبنان يشارك في هذه الحرب بقوات عسكرية لبنانية «شرعية» أو تمتلك على الأقل شرعية الأمر الواقع.
من الغريب في الأنظمة الديمقراطية، التي يدّعي لبنان أنه جزء منها، أن تكون الحرب التي يخوضها جنود لبنانيون ينتمون إلى حزب الله، (وهو حزب يشارك في السلطة، بل بات يشكل العصب المركزي للسلطة اللبنانية على المستوى الأمني)، خارج التداول الانتخابي. فحربنا في سورية هي المسكوت عنها وسط ضجيج تشكيل اللوائح وبناء التحالفات، كأن القوى السياسية اللبنانية، بما فيها قوى ما يسمى بالمجتمع المدني، قررت تجاهل المسألة، لأنها تعتبرها غير هامة مقارنة بمسائل أخرى مرتبطة بالفساد والهدر والى آخره…
يبدو الأمر مستغرباً، لكنه ليس غريبا عن ما اصطلح اللبنانيون على تسميته ب «المعجزة اللبنانية»، فنحن فعلا نعيش في معجزة خلّاقة، تقوم بتدوير الزوايا، وترضى بالمتوفر، وهو متوفر لا يعني سوى مزيد من النزف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والهجرة.
جميع الحجج التي تذرّع بها دعاة الحرب اللبنانية في سورية تهاوت، من حماية المراقد الشيعية إلى آخره… حتى الحرب على الإرهاب توشك على الانتهاء، لتصير الحرب السورية جزءا من صراع دولي وإقليمي على تقاسم النفوذ.
لا أريد الدخول في المسار الذي أوصل سورية إلى هذا البؤس، فالحكاية كما نعلم جميعا لها اسم واحد هو تحطيم إرادة الحرية التي عبّر عنها الشعب السوري في انتفاضته الشعبية، التي تصدت لها آلة قمعية لا ترحم كانت الباب الذي تسلل منه تدخل القوى الإقليمية والدولية من أجل تحطيم الشعب السوري.
سؤالنا هو عن المصلحة اللبنانية في المشاركة النشطة في الحرب السورية، هل يعقل أن يكون للبنان مطامع إقليمية في شقيقته الكبرى التي كانت على مر التاريخ المعاصر تتلاعب به وتستتبعه؟ أم أن القوة العسكرية اللبنانية التي تقاتل في سورية تعمل وفق استراتيجية لا علاقة لها بالمصلحة اللبنانية؟
لا يمكن تبسيط المسألة، فالصراع الشرس الذي يدور في المنطقة، ويتخذ الصراع على سورية قاعدة له، هو نتاج الأزمة التي تعانيها الحركة الوطنية الفلسطينية، والانسحاب العربي الشامل من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ومحاولة إيران سد هذا الفراغ.
لو كان الأمر بهذه البساطة، لهانت الأمور، غير أن دخول الطرف الروسي، وهو صديق لإسرائيل، بقوة قام بتغيير موازين القوى، ويطرح سؤالا كبيرا على المسألة، ناهيك عن الدور التركي المتعاظم، وإصرار الأمريكان على الهيمنة على شرقي الفرات.
المسألة مختلفة عن الشعارات القديمة التي طرحتها المقاومة الفلسطينية يوم كانت فلسطين هي محور الصراع. شعار «كل البنادق نحو العدو» يتحول اليوم إلى غابات من البنادق التي تتقاتل متناسية العدو أو مؤجلة المعركة معه إلى أجل غير مسمى.
نعود إلى لبنان لنكتشف أن المشاركة اللبنانية النشطة في الحرب السورية صارت خارج السياسة او فوقها.
وهنا يبرز السؤال عن جدوى انتخابات بلا سياسة؟
المسألة الثانية هي تجاهل طبيعة النظام اللبناني، فالكلام عن الفساد والرشوة والزبائنية صحيح مئة في المئة، لكنه يقول كل شيء كي لا يقول شيئا. فهذا الكلام العام الذي يتراشق به أمراء النظام اللبناني، وكلهم فاسدون، يخفي طبيعة النظام التي ترسخت بعد نهاية الحرب الأهلية وفي ظل الهيمنة السورية، ثم تنامت بعد فشل انتفاضة الاستقلال عام 2005، انه نظام الحرب الأهلية الدائمة.
في زمن الهيمنة السورية كان ضابط النظام هو الدولة العميقة التي بنيت من حول النظام الأمني اللبناني ـ السوري المشترك الذي هيمنت عليه المخابرات السورية.
أما بعد الخروج السوري، وبعد مرحلة من الترجرج الدموي، فقد نجحت الدولة العميقة في إعادة تأسيس هيمنتها، وهي تتمثل اليوم في حزب الله.
هذه الهيمنة الجديدة ليست بسيطة، بل هي هيمنة مركبة مليئة بصراعات القوى الطائفية المختلفة التي تتقاتل على النهب والنفوذ، وربما كان الصراع المعلن الذي دار بين الرئيس القوي ورئيس البرلمان هو التعبير الأوضح عن هذا الواقع.
غير أن القدرة العسكرية التي جعلت من حزب الله لاعبا إقليميا يستطيع أن يكون ندا للقوة الإسرائيلية الغاشمة، فرضت على جميع القوى السياسية التسليم لهذه الدولة العميقة بامتلاك الكلمة الفصل، كما أن الانهيار السياسي والعسكري للمحور النفطي المتحالف مع الولايات المتحدة حسم المسألة بشكل نهائي.
وهنا يقع السؤال السياسي الكبير المغيّب عن هذه الانتخابات، هو كيف ننهي نظام الحرب الأهلية، الذي هو المدخل الفعلي لإنهاء هيمنة الدولة العميقة من جهة، وإيقاف التدهور الاقتصادي ـ الاجتماعي من جهة ثانية، وبناء دولة العدالة الاجتماعية من جهة ثالثة.
مفتاح الجواب على هذا السؤال هو النظام الطائفي اللبناني، الذي يشكل الغطاء السياسي لنظام الحرب الأهلية.
هنا يقع السؤال الذي يجري التحايل عليه بخطاب ما يسمى ب «الدولة المدنية»، وهو خطاب فارغ من المعنى والمضمون، وليس سوى غطاء للبنى القائمة بلغة حديثة حوّلت كل النضالات الاجتماعية التي خيضت في العقد الأخير إلى مجرد مشهدية ما بعد حداثية بلا مضمون.
إن غياب هاتين المسألتين تجعل من الانتخابات اللبنانية مجرد فولكلور ممل، لكنها في المقابل تواجه قوى التغيير بالتحدي الكبير.
متى يولد برنامج ديمقراطي علماني جذري للتغيير في لبنان؟ وماذا ننتظر؟