... إذاً، «تواضَع» أركان السلطة والتقوا... على الأقل لمنع انفجار البلد ومواجهة التحدّي الأكبر، تهديد أفيغدور ليبرمان، وظروف اجتماعهم قسراً، تحت وطأة الخوف، تُذكّر بما كان يحصل في «العهد السوري»، مع فارق مصدر الخوف. فمَن جمَعَهم هذه المرّة ليس الحليف سوريا، بل العدوّ إسرائيل. ومع أنّ إسرائيل هي التي تُفجِّر الحروب الأهلية في لبنان -غالباً- بتحريكها الطابور الخامس، فإنها لها الفضل هذه المرّة بـ»التَدخُّل» في الوقت المناسب، عندما خاف كثيرون من قيام طابور خامس بإشعال مواجهةٍ طائفية يمكن تسميتُها «بوسطة الحدث»!
 

لا يوحي بيانُ الثلاثي السلطوي أنّ هناك حلولاً حقيقية على الطريق. وكل ما في الأمر هو أن هؤلاء استنفروا لتطويق الأزمة بعدما وصلت إلى حدود الانفجار الأهلي، فتدخّلوا لا للمعالجة، بل لتعطيل هذا الانفجار الممنوع دولياً والمحرَّم داخلياً.

لذلك، أُشبِع البيان بالجُمل الإنشائية الفضفاضة. فتحدَّث عن المؤسسات والانتخابات والدستور والموازنة. لكنّ روحيّته أوحت بأنّ المواجهة مستمرّة وتنتظرها جولاتٌ في مواعيد أخرى. والأصحّ هو أنّ الهدف من «لقاء بعبدا» هو تنظيمُ الخلاف بين الأركان الثلاثة وليس حلّ الخلاف، خصوصاً في ملف الانتخابات.

بعبارة أُخرى، مدَّد «لقاء بعبدا» للتسوية التي تمّ إبرامُها في خريف 2016، والتي على أساسها وصل الرئيس ميشال عون إلى بعبدا والرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي (الرئيس نبيه بري هو في موقعه أساساً) وتمّ صوغُ قانون جديد للانتخابات. ومن مصلحة هؤلاء جميعاً أن تستمرّ هذه التسوية إلى ما بعد الانتخابات، لأنها أمّنت وصولَهم إلى السلطة أو استقرارهم فيها.

فهناك تكامل واضح في المصالح بين قوى السلطة كلها، على رغم التجاذبات الظاهرة. وعلى الأرجح، ستتعاون هذه القوى في الانتخابات، حيث ترى حاجة إلى ذلك، وستتوزّع الأدوار لتعطيل الخروقات التي تستعدّ لها القوى الاعتراضية، من داخل السلطة وخارجها.

لذلك، لن تنتهي الأزمة بين بري والوزير جبران باسيل قبل الانتخابات النيابية، أو قبل حسم ملف هذه الانتخابات. لكنها ستنضبط تحت السقف، لأنّ المطلوب هو أن تتوزّع قوى السلطة ضمن لائحتين أساسيّتين:

- لوائح الثنائي الشيعي، وفيها قوى أخرى من 8 آذار، شيعية وغير شيعية.
- لوائح «التيار الوطني الحرّ»، ومعه قوى حزبية حليفة أيضاً، كما يستوعب تيار «المستقبل» والاشتراكي.

عملياً، سيؤدّي تنافس اللوائح «الشيعية» و«العونية»، إلى تحقيق نتائج مُهمَّة لـ«حزب الله» وحلفائه. ففي الدوائر الشيعية، تطمح «أمل» و«الحزب» للحصول على غالبية ساحقة من الأصوات، ولو في النظام النسبي، بحيث تعجز معظم لوائح الخصوم على تحصيل العتبة الانتخابية، فلا تتعرّض هذه الدوائر إلّا لخروقات بسيطة.

وأما في الدوائر المسيحية التي فيها نسبةٌ وافية من الناخبين الشيعة (جزين- صيدا، زحلة، بعبدا، جبيل…)، فإنّ «الثنائي الشيعي» سيُجري مقايضة بين الدوائر، مع «التيار»، وفقاً للحاجة، بحيث يستفيد كل طرف من قوة الآخر.

وسيحرص «الثنائي» على أن يتمّ استيعابُ تيار «المستقبل» و«الاشتراكي» في هذه المقايضة. وثمّة مَن يعتقد أنّ أركان معسكر السلطة سيحافظون في الانتخابات على روحية الحلف الخماسي («أمل» و«حزب الله» وعون و«المستقبل» والاشتراكي) الذي ما زال متمسّكاً بالتسوية، لكنهم سيحاولون إبعاد «القوات اللبنانية» التي باتت عملياً خارج التسوية ولو أنها باقية في السلطة حتى الانتخابات.

وعلى الأرجح، ستَعقد لوائح السلطة، حيث تستطيع، اتفاقاتِ تعاون مع القوى العائلية والزعامات المناطقية ذات النفوذ لإضعاف معسكر المعترضين. لكنّ القوى المناطقية ستدقّق في حسابات الربح والخسارة في كل دائرة.

وتمتلك الزعامات المحلّية، في مناطقها، قدراتٍ انتخابية تضاهي تلك التي يملكها كثير من القوى السياسية أو تفوقها. ولذلك، ستقرّر هذه الزعامات تحالفاتها الانتخابية واتجاهاتها بين قوى السلطة وقوى الاعتراض التي باتت محصورةً بفريقين:

- ما بقي من 14 آذار، وخصوصاً «القوات اللبنانية» (من داخل السلطة) والكتائب (من خارجها).
- القوى المنضوية تحت عنوان «المجتمع المدني».

إذا اتّحدت «القوات» و«الكتائب»، واتّحد معهما الفريق المدني في لوائح مشترَكة، فإنهم قد يتمكّنون من تحقيق نتائج في الدوائر المسيحية. لكنّ الحزبَين المسيحيَّين «الاعتراضيَّين» لم يقرّرا التلاقي إنتخابياً بعد.

كما أنّ القوى المدنيّة ترفع شعار «الحرب المفتوحة» على القوى السياسية جميعاً. وهذه المشكلة المتعدّدة الجوانب نتيجتها تشتُّت قوى الاعتراض، ما يقوّي حظوظ اللوائح الحليفة لـ»حزب الله».

ولكن، هل سيكتفي «المستقبل» والاشتراكي بالتعاون مع لوائح «التيار»؟ أم إنهما سيوزّعان الأدوار وفقاً للمصالح في كل دائرة؟ وهل سيطلب «حزب الله» و«التيار» من الحريري وجنبلاط أن يلتزما الوقوفَ إلى جانب فريق 8 آذار دون سواه، شرطاً لاستمرار الاتفاقات السابقة سارية المفعول؟

أي هل سيطلب «حزب الله» من الحريري أن يتخلّى عن حلفائه الآذاريّين (السابقين) شرطاً لإبقائه في رئاسة الحكومة، خصوصاً أنّ المجلس المقبل ستكون غالبيّته لـ«الحزب» وحلفائه؟ وهل يكون مطلوباً من جنبلاط التزام لوائح «الحزب» و»التيار» شرطاً لإبقائه قطباً رابعاً في التركيبة الطوائفية للسلطة؟

في المحصلة، الثابت هو أنّ «حزب الله» وحلفاءَه - الشيعة وغير الشيعة- سيحظون بالغالبية التي يريدها «الحزب» في الانتخابات، وأنّ الجبهة المقابلة مصابة بتصدّعات يمكن ترميمُها لتحسين النتائج، ولكن لا أحد مستعدّ للحديث مع الآخر… إلّا إذا سارع أولاً إلى التنازل. ففي الانتخابات، الجميع «يا ربّ نفسي»…