من عناصر الإشكال، أنّ الأحزاب، أو بالأحرى الحزبيّات الكبرى في طوائف المسلمين، «تيار المستقبل» عند السنّة، والثنائي «أمل» و«حزب الله» عند الشيعة، و«التقدمي الإشتراكي» عند الدروز، تجتمع أكثر فأكثر، ليس فقط اليوم، انما اليوم أكثر من قبل، على تفضيل التعاطي مع المستقلين ـ أو بالأحرى «مجتمع الأعيان»، المستقلّين، بالمفرّق ـ في طوائف المسيحيين، على الحزبيات المسيحيّة.
هناك في لبنان حزبيات يتفاوت إقتراب كلّ منها إلى مفهوم الحزب السياسي، ولكلّ من الحزبيات الكبرى وجهان: موطىء قَدَم في الأوليغارشية المالية، وحركة شعبية مؤطّرة كـ»جيش إحتياط». تختلف العلاقة «السحرية» بين هذين الوجهين بين حزبية وأخرى، ومن مرحلة إلى أخرى. تفرّق البرجوازية الصغيرة داخل كل حزبية بين البعدين الأوليغارشي والشعبي، وتنجح الزعامة بمقدار تلبّسها لدور الجامع بين «أوليغارشية» و«شعبية» الفريق الواحد. من الإختزال بمكان إختصار العلاقة بين هذين الوجهين، بعلاقة تابع شعبي لمتبوع أوليغارشي، ولو أنّ الماضي، هو عند هذه الحزبيات، أكثر إتصالاً ببعدها الشعبيّ مما هو الحاضر، ما يجعلها حزبيات «نوستالجية» بحكم تركيبتها أيضاً.
إختلاف كبير بين حالة وأخرى. فـ»حزب الله» يستلهم إلى حد كبير بنية «حرس الثورة الإيرانية» وهو بمعنى من المعاني امتداد لها، وهذا يزوّده بمستوى من التراتبية والتنظيم والإنضباط داخله غير موجود بذات القدر لدى الحزبيات الأخرى. هو أكثر من حزب سياسي، في حين أنّ الحزبيات الأخرى متفاوتة القرب والبعد من مفهوم الحزب السياسي، لا تحقّقه تماماً أيّ منها.
مسيحياً، لم تُعرف بعد الحرب تجربة في التنظيم والتعبئة تضاهي الفترة الذهبية لحزب الكتائب في الستينيات والسبعينيات. رغم هالة المؤسس والعائلة، لم يكن حزب الكتائب مجرّد تيار شعبي لقيادة كاريزماتية داخل طائفتها، بل حزب يسعى من حيث هو حزب للوصول إلى السلطة، وليس فقط لحراسة أو توسيع حصّته من المشاركة في السلطة. الحزبيات الأخرى يريد قادتها، حسب اللون الطائفي لكل منهم، الموقع الذي يعتبر أنّ له في «هرمية السلطة»، التي تصبح في نفس الوقت، وللسبب عينه، سلطة بلا هرم، ولا مركز سلطة، وبالتالي، وإلى حد كبير سلطة مفقودة أو مؤجّلة.
يبقى أنّه، وتبعاً لإستمرار احتفاظ الموارنة برئاسة الجمهورية، التي تبقى المنصب الأوّل في الدولة مهما انتزع منها من صلاحيات مع إتفاق الطائف، فإنّ السعي وراء الرئاسة، يقرّب الحزبيّات المسيحية أكثر من مفهوم الحزب الساعي إلى السلطة. وهذا يلعب دوراً كبيراً في الإشكال اللبنانيّ الذي يجعل حزبيّات المسلمين تفضّل للرئاسة من هو رئيس بلا حزب بين المسيحيين. في العشرية الماضية تأجّل هذا الإشكال في حمأة الإستقطاب بين 8 و14 آذار، حيث تحالفت «القوات» مع «المستقبل» والتيار العوني مع «حزب الله». أمّا بعد انفراط عقد 14 آذار من جهة، ووصول العماد ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، بعد عامين ونصف من تعطيل المجلس للتشجيع على هذا الأمر، فإنّ الإشكال عاد ليطلّ برأسه، وبشكل آليّ مع دخول عهد الرئيس عون عامه الثاني، ليس فقط من باب استشراف معركة خلافة الجنرال على الرئاسة، وان تكن المعركة، هي أشبه ما تكون ـ من زاوية وزير الخارجية جبران باسيل، رئيس التيار العوني وصهر الرئيس وشاغل الناس في الأسابيع الأخيرة ـ معركة اجتراح «ولاية جمهورية للعهد»، إنطلاقاً من تكريس نظرية «المسيحي الأقوى» (الأقوى في الشعبية بين المسيحيين ينتخبه البرلمان رئيساً للجمهورية). لكنها قبل كلّ شيء معركة «التنظيم السياسي»: بمعنى، هل يمكن اعتبار حزب الرئيس هو الحزب الحاكم، أو أقلّه الحزب الأوّل في «مؤسسة الحكم»، أم لا، فإذا كان الجواب لا، فما معنى نظرية «المسيحي الأقوى» حينها، وإذا كان الجواب بنعم، وجب الخوض في معرفة على من هو أقوى، وكيف يكون أساساً «الأقوى»، وفي البلد حزب «صاحب السلاح» المتحكّم أكثر من سواه باللعبة السياسية، من داخلها وخارجها معاً، و«الزاهد» نسبياً، بما لمجموعته من حصّة في «مؤسسة الحكم»، وفي مؤسسات الدولة وأجهزتها.
قبل رئاسة العماد عون، كان يبدو أنّ هناك بالفعل ارهاصات نظرية «ولاية عهد جمهورية» في لبنان، مبناها أنّ كلّ قائد جيش هو رئيس مقبل. صحّ هذا مع إميل لحود، ثم مع ميشال سليمان، ولم يصحّ مع جان قهوجي، لكن العماد عون هو قائد جيش أسبق، ولم يتمكّن صهر عون الآخر، شامل روكز من تبوأ منصب قيادة الجيش، لكن الأنظار لم تنعدم صوبه من قبل أناس كانوا يأملون فيه قيادة الجيش، ويأملون له بولاية العهد الرئاسية، مع أنّ خلافة جبران باسيل لعمّه عون على رئاسة التيار، بدت تكريساً، في «المجمع العوني» له، كالأوفر حظّاً في «ولاية العهد الرئاسية». في هذا الإطار، يأتي خلاف باسيل الحالي مع الرئيس نبيه برّي، والذي خرج إلى الشارع في الأيّام الأخيرة بعد تناقل فيديو لباسيل يغلظ القول في برّي، وما تبعه ذلك من موجة غضب لدى حزبية الأخير، «حركة أمل»، فهو خلاف ينقل معركة «ولاية العهد الرئاسية» لتكون بالفعل محور الانتخابات النيابية القادمة، ويزيد الأمر إشكالاً أنّ باسيل، الذي يبدو بالفعل الأكثر شعبية في المسيحيين في اللحظة الحالية، لا يتمتع بنفس الإسناد الشعبي في دائرته الإنتخابية لدخول البرلمان، وهو رسب الإمتحان هذا، بتقسيم وقانون انتخابي آخرين، في الإستحقاقين السابقين، 2005 و2009.
قامت التسوية الرئاسية التي أمّنت انتهاء فترة الفراغ الدستوريّ وانتخاب عون رئيساً في الواقع على تسويتين. واحدة قواتية ـ عونية انسحب بموجبها جعجع لعون في مقابل اتفاق الطرفين على جملة بنود لتفاهم، مبهمة علاقته بفكرة التحالف السياسي من الأساس، ولو أنّه كان يبدو «تحالفا وأكثر» في لحظة من اللحظات، التي ابتعدنا عنها، وسبب الابتعاد هنا، مرة أخرى، طلائع معركة «ولاية العهد الرئاسية». وتسوية ثانية، عونية ـ مستقبلية، بإجازة من «حزب الله» وممانعة من الرئيس بري، تنظّم في إطارها العلاقة بين رئاستي الجمهورية والحكومة. بخلاف التسوية العونية ـ القواتية التي عطّلتها حسابات «معركة ولاية العهد الرئاسية»، ظهر أنّه أمام التقارب العوني ـ المستقبلي آفاق عديدة، يتوجب متابعة تعيّناتها في حركة الواقع الانتخابي اليوم. يبقى أنّ حدّة الإشكال بين باسيل تحديداً وبين الرئيس برّي هي تجعل من تكريس باسيل «ولياً للعهد» مسألة محفوفة بالصعوبات، هو الذي خرج مؤيدو برّي يطالبون بإستقالته من وزارة الخارجية. لكن باسيل كائن سياسي غير سهل، أيّاً كان مكسبه هنا وخسارته هناك. غمزه من قناة «حزب الله»، وكلامه قبل ذلك حول انتفاء الطابع الأيديولوجي للصراع بين لبنان واسرائيل، هو بعض من عدّة مناوراته الكثيرة، في سبيل تكريس «ولاية عهد»، تبدو بمجرّد استعراض اسماء «القوات» و«أمل» و«حزب الله» مستحيلة، مع أنّه لا يمكن لـ»القوات» العودة بسهولة عن نظرية «المسيحي الأقوى هو الرئيس»، بل سيقع الاختلاف بينها وبين باسيل هو تحديد من هو الأقوى بالفعل.
بيد أن الإختلاف في اللهجة السياسية اليوم، بين «حزبيات المسلمين» تجاه باسيل، لا يخفي مشتركاً جامعاً بازائه، وبازاء سمير جعجع في نفس الوقت: فهذه الحزبيات تفضّل بشكّل محسوس أكثر من أي وقت مضى، المستقلين على الحزبيين عندما يتعلّق الأمر بالمسيحيين، ويرجح أن تكون نتيجة ذلك تشبث المسيحيين أكثر بنظرية «الأقوى بيننا للرئاسة»، خاصة وقد جرى تشرّب وجهة النظر العونية، التي ترى أنّه، وبسبب خسارة الرئاسة للكثير من صلاحياتها صارت بأمس الحاجة إلى الرئيس القوي، الذي قوّته من شخصه وشعبيته، للتعويض من نقصان صلاحياته.