تأمل واشنطن منع استفراد روسيا بالنفوذ وفرض 'الحل الروسي' في سوريا وعدم السماح لها بتحقيق نصر منفرد في أزمة دولية كالأزمة السورية
 

أعلن مسؤول أميركي كبير، مطلع فبراير الجاري، أن الولايات المتحدة لا تستبعد شن ضربات عسكرية في سوريا بعد اتهامات بحصول هجمات كيميائية جديدة نفذها النظام ضد الغوطة الشرقية. هل سنكون أمام احتمال تكرار ما حصل في إبريل 2017 عند قيام إدارة دونالد ترامب بضربة محدودة ومن دون تتمات عسكرية أو سياسية ضد قاعدة الشعيرات بعد هجوم خان شيخون الكيميائي، أم أننا أمام منعطف جديد في الإستراتيجية الأميركية حيال سوريا بعد اختتام مؤتمر سوتشي ومع اقتراب انتهاء المعارك ضد داعش واحتدام الوضع في شمال سوريا. تتيح لنا مراقبة التطورات في الشهر الماضي استشفاف ملامح مسعى واشنطن لإنتاج ديناميكية دولية وإقليمية في الملف السوري، لكن ذلك سيكون موضع اختبار على أكثر من صعيد لتبين جديته وفعاليته ومآلاته.

حاولت روسيا أواخر يناير أن تضمن المشاركة الغربية بحدها الأدنى في مؤتمر سوتشي الذي جرى تقديمه على أنه “إسهام في المسار الأممي تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة”، لكن ذلك لم يقنع واشنطن وباريس ولندن التي امتنعت عن إرسال مراقبين حتى لا تسهم في منح شرعية للحل على الطريقة الروسية. ويأتي هذا الموقف بعد تحديد الولايات المتحدة على لسان ريكس تيلرسون، في 17 يناير الماضي، لإستراتيجية ما بعد داعش، ويمكن وصفها بعودة أميركية للانخراط في اللعبة السورية بهدف إعادة التوازن بين اللاعبين الدوليين والتأثير على مستقبل الوضع السوري، لكن العملية التركية ضد منطقة عفرين، التي بدأت في 20 يناير، برهنت على أن مشكلة وضع إستراتيجية واشنطن قيد التنفيذ لا تصطدم بالتجاذب مع موسكو وبالمبارزة من الخلف مع طهران فحسب، بل في إدارة العلاقة القديمة مع الحليف التركي والصلة المستجدة مع الأكراد أيضا.

كشفت عملية عفرين نواقص وتناقضات السياسة الجديدة خصوصا في عدم التوفيق بين حليفين وفي ما يتعلق بالاحتفاظ بتواجد عسكري دون خوض نزاع أوسع. يقودنا ما سبق إلى محاولة تقييم الإستراتيجية الجديدة ومقدار الإبهام فيها وبالتالي فعاليتها وقدرتها على صياغة خطة غربية مشتركة يكون لها وزنها في مرحلة تصفية “الحروب السورية” ودورها الحاسم في التوازنات الإقليمية.

خلال مرحلة الحرب ضد داعش، كان البنتاغون يمسك بزمام الأمور، وأواخر ديسمبر 2017 حذر وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس روسيا والأسد من “الاقتراب من وادي الفرات”.

وأصبح نهر الفرات الخط الفاصل بين انتشار قوات سوريا الديمقراطية (المكونة من قوات الحماية الكردية) في شرق وشمال الفرات، وقوات روسيا والنظام والمحور الإيراني في الغرب منه. وجرى الإعلان أولا عن قوة حدودية مكونة من 30 ألف شخص تنوي واشنطن دعم انتشارها في المناطق الحدودية.

وتوضحت بشكل أفضل معالم المقاربة الأميركية مع تصريحات وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في جامعة ستانفورد إذ قال إن “الوجود الأميركي العسكري في سوريا باق إلى أجل غير مسمى في إطار إستراتيجية أميركية أوسع نطاقا، تمهد الطريق دبلوماسيا لرحيل الرئيس بشار الأسد إنما لاحقا وليس على المدى القصير”. هكذا حدد تيلرسون انخراط أميركا في سوريا على كافة المستويات من رحيل داعش إلى رحيل الأسد عند ختام العملية الانتقالية.

ومن أجل تبرير الوجود العسكري الطويل المدى أعتبر تيلرسون أن “ابتعاد الولايات المتحدة عن سوريا سيتيح لإيران فرصة ذهبية لتقوية تواجدها ونفوذها هناك، وأن انسحاب العسكريين الأميركيين كلياً من سوريا سيساعد بشار الأسد على البقاء”. ولذا جرى الربط بين المصلحة القومية الأميركية و”منع ظهور داعش أو ما يشابهها وضرب نفوذ إيران”، مع الاحتفاظ بوجود عسكري ودبلوماسي في سوريا للمساعدة على إنهاء الصراع. بيد أن الاحتجاج التركي على نشر قوة حدودية دفع البنتاغون للتوضيح أن واشنطن ليست بوارد إنشاء جيش أو قوة حرس حدود، وأصدر بيانا جاء فيه “تُواصل الولايات المتحدة تدريب قوات أمن محلية في سوريا. ويهدف التدريب إلى تحسين الأمن للنازحين العائدين إلى مناطقهم المدمرة ومنع عودة الإرهاب”، لكن ذلك لم يقنع أنقرة وبرز الرد التركي من خلال عملية عفرين التي تمت بضوء أخضر روسي في سياق “انتقام” موسكو من تحالف الأكراد مع واشنطن.

يتبين من خلال الحفاظ على الوجود العسكري الأميركي في العراق وسوريا، وحراك الأسابيع الأخيرة على الصعيد الدبلوماسي (تشكيل مجموعة عمل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمملكة العربية السعودية والأردن، وتحجيم مؤتمر سوتشي) بلورة إطلاق ديناميكية إقليمية ودولية هدفها تحويل الرؤية المشتركة إلى ورقة عمل (اللاورقة التي قدمتها الدول الخمس إلى الموفد الدولي ستافان دي ميستورا عشية مؤتمري فيينا وسوتشي هي أول الغيث) وشراكة تنفيذية ميدانيا.

ويتمثل الطموح أن تكون العودة المباشرة لأميركا بمثابة المحرك الأساسي من جديد للسياسة في الشرق الأوسط ونقطة التوازن فيه وذلك بعد العودة الروسية القوية وتداعياتها.

ويمثل ذلك الخروج من سياسة الإدارة السابقة في الانسحاب من ملفات الشرق الأوسط وإدارتها من الخلف، لكن كبح إيران في سوريا ولجم طموحاتها الإقليمية لا يصطدمان فقط بالشراكة الروسية الإيرانية، ولكن بعدم توفر أدوات عمل فعالة ومنسقة بين واشنطن وحلفائها.

من خلال هذه الدعائم لسياسة جديدة تأمل واشنطن منع استفراد روسيا بالنفوذ وفرض “الحل الروسي” في سوريا وعدم السماح لها بتحقيق نصر منفرد في أزمة دولية كالأزمة السورية، لكن ذلك لا يعني وجود رغبة أميركية بتقويض كل الجهد الروسي في الملف السوري، وإنما إلزام موسكو باحترام الجهد الدولي للحل السياسي المتمثل بمسار جنيف. وسيتوقف التعامل مع موسكو على المراحل القادمة للعملية السياسية، إذ أن الاكتفاء بالنتائج المحدودة لسوتشي سيؤدي إلى المزيد من التباعد بين واشنطـن وموسكو، وعلى الأرجح سيبقى التجاذب هو القاعدة لأن الحل في سوريا يرتبط بملفات أخرى دولية وإقليمية.

وتملك واشنطن ومجموعة الخمس أوراقا عدة: العلاقة مع المعارضات السورية الفاعلة، الوجود الأميركي المباشر على الأراضي السورية، عدم الإسهام في إعادة الإعمار من دون حل سياسي ملائم، علما أن منطقة الانتشار العسكري الأميركي شرق الفرات تؤمن سيطرة الولايات المتحدة على الموارد الأساسية للاقتصاد السوري بشكل يجعل من المستحيل تطبيق أي حل بعيدا عن الرؤية الأميركية.

بيد أن عملية عفرين وتداعياتها أبرزت الصعوبة الجوهرية لإستراتيجية الولايات المتحدة التي تتطلب الاحتفاظ بتحالفات نشطة مع وجود قوتين في حالة حرب مع بعضهما البعض.

ومنذ بدء هجوم عفرين سعت واشنطن إلى الوصول لتوازن بين الطرفين، معترفة بصحة المخاوف الأمنية لتركيا، في الوقت الذي تدعو حلفاءها في تركيا إلى تحديد نطاق الهجوم بمنطقة عفرين لتقليل عدد الضحايا.

وتغمز مصادر أميركية من قناة الرئيس التركي وتقول “في عام 2016، تمت صفقة شملت وحدات حماية الشعب غرب الفرات، أعطى بوتين خلالها أردوغان جرابلس مقابل شرق حلب. والآن بوتين يسلم أردوغان بعض أجزاء من منطقة عفرين على طبق من فضة، مقابل امتثاله إلى تقدم نظام الأسد لاحقا في إدلب بدعم من روسيا”.

ومما لا شك فيه أن هذا التناغم المرحلي الروسي التركي يعقد الحسابات الأميركية، وتجد واشنطن من ينافسها لا فقط في العلاقة مع تركيا الأطلسية ولكن أيضا مع الأكراد الذين يحتفظون بصلات مع روسيا وإيران.

وتعتبر أوساط واشنطن أن إقامة منطقة خاضعة للنفوذ الأميركي فوق ما يقارب 25 بالمئة من الأراضي السورية في الشمال والشرق، تضمن دورا مؤثرا للولايات المتحدة في أي تسوية سياسية وفي مستقبل البلاد ما بعد الحرب.

حاول فلاديمير بوتين قبل إعادة انتخابه أن يبرهن أن روسيا، على عكس الولايات المتحدة، هي صانع الصفقات الحقيقي في سوريا وفي الإقليم، لكن واشنطن ترفض التسليم وتحاول استعادة دورها في سياق منعطف جديد من سياستها السورية عبر البقاء على خط الضغط والتواصل مع موسكو للمساومة عند اللزوم، أما الجديد فهو قرار بدء احتواء النفوذ الإيراني الإقليمي انطلاقا من سوريا.