المجهود اليومي الذي يبذل، من قادة التيارات السياسية الأساسية المشاركة في «لعبة الحكم» في لبنان لتكرار الطمأنة، بأن الانتخابات النيابية، المؤجّلة ثلاث مرّات حتى الآن، والحاصلة آخر مرة قبل تسع سنوات، ستجري في موعدها المُرحّل إلى أيّار/مايو المقبل، أيّاً كان الظرف، هو مجهود لا يكفل لوحده تبديد الهاجس. صحيح أنّ التأجيل مرة جديدة يفترض أنّه أصعب مما سبق، لا سيّما وأنّ رئيس جمهوريّة انتخب من بعد فراغ، وقانون انتخاب جديد أتفق عليه من بعد استعصاء، وأساساً حجّة التأجيل الأخير، العام الماضي، كانت إعطاء الوقت لتنظيم الانتخابات على أساس القانون الجديد، المقعّر والعويص، القائم على الدوائر المتوسطة الحجم، والنسبية للمرة الأولى في تاريخ البلد، وبلوائح مغلقة، مع اعتماد مبدأ الصوت التفضيلي. لكنّ التململ من القانون الجديد لم ينقطع منذ اقراره، والتملّص منه بشكل أو بآخر لم يسحب من التداول، كما أنّ فكرة «التأجيل التقني» المعتمدة العام الماضي للتمديد مرة ثالثة لمجلس 2009 النيابيّ، هي من النوع الذي يمكن أن يفتح الباب على «تسليف» ستة أشهر، وراء ستة أشهر.
للهاجس حيثيته إذاً، وتبديده غير متاح إلى حين تذهب الناس للاقتراع، وإن كان التأجيل مجدداً، ومن بوابة «التأجيل التقني الإضافي»، على جانب من الصعوبة ومحفوف بالمخاطرة، وارتداداته غير محسوبة، ولا يمكن التحكّم بها سلفاً. في الوقت نفسه، إجراء الانتخابات في موعدها دونه صعوبات جدية أيضاً، في طليعتها أن تكون لهذه الانتخابات معنى، أن يكون لها محور، أو مجموعة محاور على أساسها يخاض الاستحقاق، وأن تكون مجموعة التيارات السياسية المشاركة في «لعبة الحكم»، يتقدمها الحزب المتحكم باللعبة، «حزب الله»، قابلة بالحد الأدنى، بأن يكون التزاحم الانتخابي على أساس هذه المحاور.
ما المقصود بالمحاور؟ إمّا أن يكون محور الانتخابات متعلّقا بـ»جردة حساب» أو «جردة تقدير» لعهد الرئيس ميشال عون، وللتسوية الرئاسية التي أتاحت وضع نهاية لعامين ونصف من الفراغ الدستوري. وإمّا أن يكون محور هذه الانتخابات متعلّقا بمعاودة فرز العام 2009 على قاعدة «مع» و»ضد» سلاح «حزب الله». يمكن أن يكون هذا وذاك، لكن محورا سيطغى على الآخر بالنتيجة. فإذا كان «من غير المحبّذ» لدى قوى «لعبة الحكم» خوض الانتخابات «مع» أو «ضد» العهد، وبعد انشطار لفيف 14 آذار، ثم اجتماع التيارات الكبرى فيها في حكومة واحدة من دون أن يؤدي هذا إلى التخفيف من حدّة الانشطار، بل إلى تصعيده، صار من الصعب انتظار انتخابات على قاعدة «مع» و»ضد» سلاح الحزب، بل صار «تسييس» مشكلة السلاح هذا، يرتبط بأخذ مسافة عن الاستحقاق النيابي نفسه، واعتباره موسماً «ايهامياً» بديمقراطية تمثيلية مصادرة سلفاً.
إذاً؟ أي استحقاق سيتاح إجراؤه في موعده المقرّر لن يمكنه رغم كل شيء أن يتفلت من هذين المحورين، وبالذات مسألة الموقف من العهد الرئاسي ككل، إذ لم يسبق أن اجريت انتخابات في تاريخ البلد، بعد تبوؤ رئيس جمهورية جديد للسدّة، إلا وكان «الاستفتاء على العهد» حاضراً فيها، بشكل أو بآخر. وإلى حد كبير، مسألة «العهد»، وطبيعة التسوية الرئاسية التي فتحت الطريق إليه وماذا بقي منها اليوم، هي المسألة التي ستفرض نفسها على الاستحقاق أكثر من سواها، والأغلب أن حضور مسألة «سلاح حزب الله» ستكون ثانوية، أقلّه من حيث تسليط الضوء وقراءة النتائج، مقارنة بمسألة «العهد»، ما يعني مرة أخرى، أنّ المنازلة الانتخابية الأكثر «تسيّساً» ستكون في الوسط المسيحي، وهو ما يطرح السؤال عمّا يكون قد بقي من التفاهم العوني ـ القواتي من الآن حتى اجراء الانتخابات النيابية.
لا يلغي هذا أنّ للانتخابات هذه المرة، حيثية خاصة، تتعلّق بالرئيس سعد الحريري وكتلته النيابية، لكن هذا الأمر يرتبط هنا أيضاً بنجاح رئيس الوزراء في تقديم «خارطة طريق» لطبيعة العلاقة بين الحالة التي يمثلها، وبين الحالة العونية. كذلك، وعلى الرغم من عودة السلبية للعلاقة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، إلا أنّ ما ظهر في أعقاب «محنة الاستقالة»، أنّ ثلاثي «التيار العوني ـ حركة أمل ـ تيار المستقبل» بات يشكل بالفعل، ما يمكن تسميته بقوى الاستبلشمنت في لبنان، في مقابل «حزب الله» الذي هو الجماعة الجماهيرية والمسلّحة الأقوى، وهو الحزب المتحكم بامتياز بلعبة الحكم، وله موطئ قدم في الإستبلشمنت، لكنه ليس قوة استبلشمنتية تماماً، وتشبهه «القوات اللبنانية» في الجانب المسيحي، مع اختلاف الحجم والقدرات والتأثير.
قبل خمسة أشهر على الاستحقاق المأمول، لا تزال الحماسة له فاترة بشكل عام. وككل مرة ثمة من يتداعى لخوض الانتخابات ضدّ «الطبقة السياسية» ككل، هذه الطبقة، الذي ما تجاوزنا اشكالية المصطلح، تجمع قوى استبلشمنتية «اوليغا ـ شعبية»، مع قوى فوق استبلشمنتية (حزب الله) أو نصف ـ استبلشمنتية (القوات). فهناك من جهة، أنصار «احياء 14 آذار»، الذين يريدون خوض الاستحقاق على أساس محوري، «ضد العهد»، و«ضد حزب الله»، وهناك من يقدمون أنفسهم على أنهم مرشحو المجتمع المدني. المفارقة أنّ احيائيي 14 آذار ينتقدون هؤلاء لأنّهم لا يأتون على ذكر مشكلة سلاح «حزب الله»، في حين أنّ صفة «المجتمع المدني» يمكن أن تبرّر عدم التركيز المحوري على هذه المشكلة، لولا أنّه يجري استخدام هذه الصفة لخوض انتخابات نيابية. من التناقض بمكان خوض الانتخابات تحت يافطة مجتمع مدني. ذلك أن كل معادلة الديمقراطية التمثيلية البرجوازية تقوم على الفصل بين السلطات ضمن المجتمع السياسي، أي الدولة، وعلى حيويات تراقب وتضغط على هذا المجتمع السياسي، بفعالياتها ومنظماتها. عندما يقرر من هم في المجتمع المدني خوض الانتخابات النيابية التي تعني السلطة التشريعية ضمن المجتمع السياسي، فيعني الانتقال من فئة إلى أخرى، لزاماً. ممكن المشاركة كقدامى المجتمع المدني، وهذا فارق أساسي. مثال على هذا: يمكن أن يزدان أي برلمان بنواب شيوعيين أو تروتسكيين، لكن من التناقض أن يكون النائب نقابياً ممارساً أيضاً. يمكنه أن يكون نقابيا سابقا بكل تأكيد.
يضيء هذا على مشكلة تتجاوز مرشحي «المجتمع المدني»، وهي أنّه من الخطأ حصر المسارات الديمقراطية بالبحث عن «إعادة الثقة» بالمؤسسات. ينبغي في الوقت نفسه الحرص، على ابقاء غريزة التشكيك بالمؤسسات حاضرة، بقوة. وفي لبنان، هذا راهني أكثر من أي وقت مضى. في كتابه عن «الديمقراطية المضادة» يستعيد المفكر السياسي الفرنسي بيار روزنفالون مثال الفيلسوف آلان في فرنسا مطلع القرن العشرين. بالنسبة لآلان، ينبغي أن تبقى أي سلطة غير محبوبة، مهما فعلت، والمواطن الحرّ ليس الذي تسعده مكتسبات تؤمنها له أي سلطة، بل الذي يحافظ على تكدره و»نكده» حيال كل سلطة. هناك بالنسبة لآلان ما لا يمكن تحسينه في أي سلطة. يمكن التخفيف من غلوائها، تأطيرها، الحد منها، بابقاء غريزة الاشتباه. انتقد آلان وهم «الشعب الحاكم»، وشدّد على أن الشعب الحرّ هو «الشعب المرتاب». لهذا أهمية قصوى بالنسبة إلى حال لبنان اليوم.. الحفاظ على الارتياب، من لعبة الحكم ومن دعاة التغيير في آن، من «الطبقة السياسة»، الاستبلشمنتية وما فوقها وتحتها، ومن المجتمع المدني «المنخرط» في ما ينزع عنه صفته تلك.. الحفاظ على الارتياب من الانتخابات وقانونها، منها اذا جرت في موعدها، ومنها إذا أجّلت. ليس الحفاظ على الارتياب، لأنه موجود وبكثرة، بقدر ما هو تغذيته، وإعطاؤه وجهاً.. وخطة.