فندت عودة رئيس الحكومة اللبنانية، بعد إعلان قرار الاستقالة من الرياض، إلى بيروت كل الشكوك التي أثيرت حول أسباب الاستقالة باتهامات غير مباشرة للسعودية. وأكد الحريري خلال اجتماعه برئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري في قصر بعبدا، الاثنين، أن الحفاظ على استقرار لبنان، لن يتحقق إلا بسياسة النأي بالنفس، وتقول مصادر إن الأطراف السياسية اللبنانية تلقت رسائل الحريري بإيجابية تبقي الانسجام السياسي الداخلي بما لا يهدد الاستقرار في البلاد، أمام تشديد الحريري على أنه لا تغطية سنيّة للأدوار التي يمارسها حزب الله في المنطقة، فيما سيسعى الحزب إلى إعادة تموقع لحاجته إلى إبقاء الغطاء الشرعي الحكومي على رأسه
 

حين خرج رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الاجتماع الذي جمعه برئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري في قصر بعبدا، الاثنين، تقدم من الصحافيين المتجمعين في باحة القصر والتقط معهم “سيلفي” فرحا، فسارع الصحافيون إلى الاستفسار عما دار في خلوة الرؤساء الثلاثة فرد عليهم “ألا تروني مبتسما”.

وواكب حبور الحريري ما نقل عن بري أنه قال بعد خروجه من الاجتماع “تفاءلوا بالخير تجدوه”. وفي الإشارات الإيجابية التي أطلقها بري والحريري ما يفيد بأن دخاناً أبيض سوف يصعد من مدخنة المشاورات التي أجراها عون مع القوى السياسية اللبنانية حول مسألة النأي بالنفس التي يجب على لبنان الالتزام بها، بشكل جدي، لكي تنتقل خطوة “تريث” الحريري في تقديم استقالته إلى سحبها نهائيا من التداول.

وتقول المعلومات إن الرؤساء الثلاثة اتفقوا على مخرج يقترب من موقف الحريري ويبقي الانسجام السياسي الداخلي بما لا يهدد الاستقرار في البلاد. والواضح لكل القوى الداخلية في لبنان كما لتلك الخارجية المهتمة بالشأن اللبناني أن مشكلة حزب الله لن تحل لبنانيا وبالتالي وجب على الحزب مراعاة مصالح الدولة اللبنانية والسيطرة على جماح منطق الحزب الميليشياوي.


مخرج للأزمة

يقر المراقبون أن المخرج سيكون نظرياً يؤكد على نصوص الجمهورية الواردة في الدستور كما تلك المنصوص عليها في خطاب القسم الذي ألقاه عون مفتتحاً عهده أمام البرلمان وفي البيان الوزاري الذي ألقاه الحريري لتقديم حكومته أمام نفس البرلمان. والأرجح أن إعلانا جمهورياً جديدا سيؤكد المؤكد بحيث لا يصار إلى تعديل في الصيغة الجديدة التي أنتجت العهد برئاسة عون في بعبدا والحريري في السرايا.

ولفت المراقبون إلى تصريحات صدرت عن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والزعيم المسيحي سمير جعجع والتي اعتبرت وسطية تحفظ هيبة الدولة وقواعدها دون أي صدام مع حزب الله. وحتى أن تصريحات جعجع الذي يعتبر متشدداً في مسألة رفض سلاح حزب الله اتخذ موقفا مرناً يتمسك بالتزام الجميع بمسألة النأي بالنفس حفاظاً على مصالح لبنان مع الدول العربية.

غير أن التصريحات التي أدلى بها الحريري في الساعات الأخيرة لقناة سي نيوز الفرنسية تعبر عن موقف حازم لجهة تحميل حزب الله مسؤولية تدهور العلاقات اللبنانية العربية ولجهة تمسكه بمطلب التزام الحزب بسياسة النأي بالنفس كشرط للعودة عن استقالته. واعتبر مراقبون أن الحريري يلاقي في مواقفه هذه ما صدر عن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأخيرة مع توماس فريدمان في صحيفة نيويورك الأميركية من أن لا تغطية سنيّة للأدوار التي يمارسها حزب الله في المنطقة.

ويضيف هؤلاء أن الحريري متحصّن بموقف رئاستي الجمهورية والبرلمان المتضامن والمتفهم لدوافع استقالته من الرياض، كما لحقيقة أن سقوط الحكومة الحالية يفتح أمام حزب الله أزمة غياب بديل حكومي متوفر وفق القراءات الراهنة. وتؤكد أوساط لبنانية مطلعة أن الحراك السياسي الداخلي الذي باشره رئيس الجمهورية من خلال مشاوراته مع الكتل السياسية في بعبدا تستند على حراك إقليمي دولي مواكب يتابع لحظة بلحظة تطور الأزمة التي أطلقتها استقالة الحريري في 4 نوفمبر الجاري، وهو ما تعبر عنه حركة السفراء في بيروت للقاء عون وبري وعون.

وتضيف هذه الأوساط أن القاهرة وباريس تعملان لدى الرياض وطهران لتهدئة الموقف في لبنان والاتفاق على صيغة يتعايش داخلها لبنان مع الخلاف الإيراني السعودي. وفيما تتحدث أنباء عن اتصالات أجراها الإليزيه مع الرئيسين عون والحريري في اليومين الماضيين، أكدت معلومات أخرى إرسال باريس موفدا إلى العاصمة الإيرانية في سعي لإقناع إيران بتقديم وجبة إيجابية يظهرها حزب الله في لبنان.

وتقول المعلومات إن إيران تعوّل على قناة التواصل مع فرنسا لإحداث اختراق في جدار الغرب بشأن الموقف حيالها. ورغم السجال الذي جرى بين باريس وطهران على خلفية موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من البرنامج الصاروخي الإيراني، عكست تفسيرات باريس لموقف رئيسها وحرص طهران على التواصل مع باريس توقا لدى الطرفين للحفاظ على ميدان تواصل وتعاون قد يكون لبنان نموذجا لنجاحه.

وصف الحريري لولي العهد السعودي بالرجل الإصلاحي يهدف إلى نفي كل الشائعات التي دارت حول ظروف استقالته

متانة العلاقات مع السعودية

تتحدث مراجع سياسية لبنانية عن أن المواقف التي أطلقها الحريري في المقابلة التي أجرتها معه مجلة “الرجل” السعودية تحرت التأكيد على متانة العلاقة التي تربط رئيس الحكومة اللبنانية بالمملكة العربية السعودية ومتانة صلاته الشخصية بالطبقة الحاكمة.

وقالت هذه المراجع أن وصف الحريري لابن سلمان بالرجل الإصلاحي يهدف إلى نفي كل الشائعات التي دارت حول ظروف استقالته وكل الأقاويل التي طالت ظروف إقامته هناك بعد تلك الاستقالة.

وكان الحريري نوه في المقابلة بشخصية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان “ولي العهد صاحب رؤية ورجل لديه الإمكانية للتحدي ويعمل باتجاه هذا التحدي”، مضيفا “في أي وقت تحاول الاتصال بالأمير محمد تجده في جبهات العمل فهو يعمل دون كلل أو ملل.. أتساءل متى ينام ومتى يرتاح”.

وتتوقع مصادر لبنانية مطلعة أن يصار إلى تظهير الموقف الذي اتفق عليه عون وبري والحريري مطلع الأسبوع القادم، بعد عودة عون من زيارته إلى روما التي تبدأ الأربعاء.

ولم تستبعد هذه المصادر صدور مواقف من حزب الله تساعد على دعم المخارج التي اتفق عليها في بعبدا. وتلفت المصادر إلى أن حزب الله آثر التهدئة مع المحيط العربي، لا سيما دول الخليج، وأن نفي أمين عام الحزب حسن نصرالله إرسال أسلحة إلى اليمن وتلميحه إلى عودة قوات الحزب من العراق وسوريا، وفّر الأعراض الأولى لتموضع جديد يجهّز الحزب نفسه له لمواجهة الموقف الجماعي للنظام السياسي العربي الذي برز في بيان الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، ولمواجهة موجة العقوبات الجديدة التي تعدها الإدارة الأميركية ضده والتي قد تتمدد باتجاه موقف دولي جامع ضد ظاهرة الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان.

ورغم تشكيك الكثيرين في التزام حزب الله بسياسة النأي بالنفس، وبالتالي عدم التدخل في شؤون الدول العربية، فإن أوساطا سياسية لبنانية تعتبر أن الحزب بحاجة إلى إبقاء الغطاء الشرعي الحكومي فوق رأسه، وبالتالي فإن له مصلحة في العودة للتحصّن داخل مواقعه السياسية اللبنانية.

تهديد الحرس الثوري مؤخراً بتطوير الصواريخ الإيرانية ليصل مداها نحو أوروبا هو تصعيد قد لا يتطلب مهادنة في لبنان إلا إذا كان لذلك ثمن بالمقابل
وتلفت هذه الأوساط إلى أن طهران ستتولى الحديث باسم حزب الله وتتولى إطلاق مواقفه، مضيفة أن تصريحات طهران الأخيرة حول أن نزع سلاح حزب الله “غير قابل للتفاوض” والرد الذي قام به الرئيس الإيراني حسن روحاني ضد السعودية وجامعة الدول العربية عينة من السلوكيات الجديدة التي تخلّص حزب الله من أعباء الظروف اللبنانية المستجدة التي تعارض أنشطته ومواقفه ضد بعض الدول العربية.

وتدعو مصادر دبلوماسية عربية إلى عدم الانجرار كثيرا في أجواء التفاؤل التي صدرت عن المجتمعين في بعبدا. وتقول هذه المصادر إن الخلاف السعودي الإيراني قد لا يسمح بهدنة لبنانية خصوصا وأن الجانب السعودي قد تسلّح بموقف جامعة الدول العربية المستنكرة لتدخل إيران في الشؤون العربية والمستنكرة لسلوكيات حزب الله الذي وصفه بيان وزراء الخارجية العرب بـ”الإرهابي”.

وتضيف المصادر أن تهديد الحرس الثوري مؤخراً بتطوير الصواريخ الإيرانية ليصل مداها نحو أوروبا هو تصعيد قد لا يتطلب مهادنة في لبنان إلا إذا كان لذلك ثمن بالمقابل. وانتهت هذه المصادر أن مداولات إقليمية ودولية كثيفة ستجري في الساعات والأيام المقبلة في محاولة لوضع قواعد تجنب لبنان أي انزلاق نحو تصعيد لا تحمد عقباه.

ويحسم مصدر برلماني لبناني الجدل الحالي بأن حسن نصرالله لا يمكنه المضي في أي حل لا يرضي طهران وأن الحريري لن يقبل أي صيغة رمادية لا ترضي الرياض. ويضيف المصدر أن محاولة الرئيس ميشال عون لإنتاج حل لبناني لنزاع إقليمي هو من ضروب العبث. ويكشف المصدر أن باريس تعمل بنشاط على خطوط واشنطن والرياض وطهران لإقناع تلك العواصم بممارسة ضغوط لإنتاج صيغة تجمد الأزمة السياسية بانتظار الانتخابات النيابية.

ويضيف المصدر أن اتصالات جرت بين واشنطن والرياض لإيجاد صيغة تزاوج ما بين ضغوط الطرفين على حزب الله وإيران وبين حماية لبنان من الأعراض الجانبية لذلك، وأن باريس تتسلّح بموقفها المدافع عن الاتفاق النووي مع إيران وزيارة الرئيس ماكرون المقبلة إلى إيران لممارسة ضغوط على طهران لتمرير ما تريده باريس للبنان في هذه المرحلة.