خلاصة بسيطة خرجت بها من اللقاء مع رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال ميشال عون، الذي أجريته معه وسبعة من الزملاء، رؤساء تحرير المحطات التلفزيونية اللبنانية.
لا يمكن للفارق أن يكون أكبر بين أحلام عون وإنجازات رئاسته. صحيح أن ما ينطبق على عون ينطبق على الحكومة أيضاً، لكن الفارق أن عون آتٍ من سقوف أحلام مرتفعة، ومن حروب حملات شعبوية لا حدود لعصبها الشديد، وراديكاليتها التغييرية!
ما حاول تسويقه كإنجازات للعهد الرئاسي في سنته الأولى، لا يعدو كونه العمل البديهي للسلطة التنفيذية، حتى في دولة على حافة الفشل. أحزنني أن أرى الرئيس في خريف العمر، وخريف التجربة النضالية الطويلة، التي كلفت دماء وأعماراً مهدورة، متحمساً للتسويق لتعيين هنا أو إقرار قانون هناك، حتى ولو كان قانون الانتخابات النيابية.
كثيرة كانت طواحين الهواء على طاولة حوارنا، وكبيرة كانت الفجوة بين صاحب أطول تجربة ترشح للرئاسة، والرئيس الذي صاره.
فمن مثل عون، أيدته أو عارضته، لا يعطيك الانطباع أن الوصول إلى الكرسي هو هدف بحد ذاته، كي تستكين لهذا المعيار في تقييم التجربة. هو لا يعطيك، أصلاً، الانطباع بأنه يصل يوماً، فلا محطة نهائية في مسيرته، بل محطات موصولة في رحلة مفتوحة النهايات.
بدا لي رئيساً لوطن أسير بكل معنى الكلمة. وبدا قليل الحيلة في إقناعنا بالعكس. بين عباراته القليلة خلال اللقاء، التي سيكون لها مكان في تاريخ النص العوني، اعترافه أن أقصى ما يمكن تقديمه للبنانيين والعرب هو الحفاظ على السلم الأهلي، وعدم إضافة دولة متفجرة جديدة إلى لائحة الدول المنفجرة في المنطقة، من ليبيا إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق!
أحسب أن هذه هي النقطة الحقيقية والعميقة التي يلتقي عندها الرئيس مع رئيس الحكومة سعد الحريري، وهما طرفا التسوية التي أنهت التعطيل والفراغ... لقاء بين زعيم الموارنة وزعيم السنة على مهادنة الحالة الشيعية الصاعدة بكل طاقتها التفجيرية، والمثبتة فعاليتها في كل بقعة وصلت إليها شهية إيران التوسعية في المنطقة!
سألته أن يعرِّف لي سياسة النأي بالنفس، وإن كانت تعني النأي بالنفس عن عروبة لبنان. وتابعت بسؤال محدد عن النأي بالنفس عن الاشتباك بين العرب وإيران. أجاب: وهل كل العرب على خلاف مع إيران؟ بدا لي أنه اختبأ خلف أقلية عربية لتبرير موقفه من إيران و«حزب الله». من السهل جداً الاستنتاج أن عون يضع أوراقه عند إيران و«حزب الله».
لكن الحقيقة أنه في هذا الموقع مرغم لا راغب، متعامل مع وقائع صعبة لا شريك فاعل في رؤية أو استراتيجية. فهو كما سبق أن تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن «حزب الله» كمشكلة، تحدث في مقابلتي والزملاء معه عن «حزب الله» كمشكلة تتجاوز بتعقيداتها قدرات اللاعبين المحليين على التعامل معها. وتطول الأطر الزمنية المنتظرة لحلها، بطول الأزمنة المنتظرة لحل مشكلات الشرق الأوسط المزمنة، القديمة والناشئة.
أما في المعطى المصلحي المباشر، فهو يثق بالإيرانيين و«حزب الله» أكثر من ثقته بالعرب والمجتمع الدولي؛ بمعنى يثق بقدرتهم على إيصاله، وحمايته بعد الوصول، ويثق بمثابرتهم في خوض معركته، خلافاً لتجاربه السابقة التي ذاق فيها طعم التخلي عنه أو عن غيره. مزيج عجيب من الثقة بهم كمصدر قوة وتوازن، وإدراك لخطورة مشروعهم محلياً وعربياً، وإقرار ضمني حقيقي بدورهم كمقاومة في مواجهة إسرائيل.
بعد المقابلة، أسهب في الحديث عن الأشهر الأخيرة التي سبقت منفاه، وكان رئيساً للحكومة العسكرية بعد انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل. تحدث عن التخلي الأميركي، وعن ضعف الضمانات الدولية، وضرورة الإقرار بالأمر الواقع في المنطقة لناحية أدوار اللاعبين، وتقييمها بدقة وعناية.
لماذا كان انتخابه إذن ما دام أنه لن يختلف في الأداء عن رئيس أضعف منه؟ أحسب أن الجواب الصادق الوحيد هو صيانة النظام السياسي اللبناني، الذي كان سيظل، مع أي رئيس آخر، أسير «الإحباط» التمثيلي المسيحي في الموقع المسيحي الأول في النظام، إن أمكن أصلاً إيصال غير عون للرئاسة. فرئاسة ضعيفة، وتمثيلية، أفضل من رئاسة ضعيفة فاقدة لمشروعية التمثيل الطائفي.
في سنة العهد الأولى، بدا كل شيء واضحاً؛ بلاد أسيرة لا تتسع للأحلام الكبرى، رغم الحضور الجدي للبنانيين مقاومين في كل المواقع السياسية وغير السياسية، والرسمية وغير الرسمية.
لكن عن ماذا يدافع هؤلاء؟
وأنا جالس إلى يسار الرئيس على طاولة الحوار، تذكرت محطات الاشتباك معه، وقسوتي الشديدة عليه في كثير من الحلقات التلفزيونية، وعنف السجالات الماضية التي تخطت كثيراً من الحدود. مع ذلك، أنا الآن إلى يساره. لم يعترض على مشاركتي أو مشاركة أي من الزملاء. لم يشترط معرفة الأسئلة مسبقاً. لم يشترط تجنب مواضيع بعينها. لا يتمتع صحافيون كثر في منطقتنا بهذه «الرفاهية». وهذا وإن كان يحسب للرئيس عون، فإنه في الوقت نفسه يحسب للبنان الذي لا يزال يقاوم.
هذه البقايا الديمقراطية هي ما يستحق الدفاع عنه وحماية البلاد من أجله.