الحكم في قضية إغتيال الرئيس بشير الجميل، يلفت الانتباه مجدداً الى مفارقة لبنانية، بين  ماضٍ يرفض ان يمضي، برغم أنه لم يعد يصلح للاستخدام، وبين  حاضر يرفض أن يتطلع الى الأمام ، الى بناء أسطورة جديدة، مصالحة طائفية مزعومة، كذبة وطنية إضافية.
لم يُحدث الحكم بالاعدام على المتهمين حبيب الشرتوني ونبيل العلم الزلزال المفترض. الزمن كفيل بالنسيان . والجيل الجديد ربما لا يعرف الكثير من التفاصيل عن الإغتيال ، ولا عن الظروف والدوافع والاسباب، ولا ربما عن سبب تأخر الحكم 35 عاماً عن الواقعة التي تريد العائلة والحزب إعادة إدراجها وإستثمارها في السياق السياسي الراهن.
الإعدام بحد ذاته حكم قاسٍ ، ظالمٍ ، لا إنساني ، ولا أخلاقي، حتى ولو كان في قضية راهنة. كيف إذا كانت الدعوى سقطت بمرور  هذا الزمن، أو  هكذا يفترض. لكن المعايير اللبنانية، السياسية تحديداً ، تسمح بمثل هذا التجاوز، ذلك الخرق، لما يفترض أنه عصر مؤات للمدعى عليهم بالإغتيال، والذين نال أمثالهم أحكاماً بالبراءة ، لأنهم ينتمون الى حلف سياسي حاكم اليوم، ويضم في صفوفه حزب المحكومين بالاعدام.
وفي هذه الحالة يصبح الحكم الصادر من المجلس العدلي بمثابة هدية سياسية، إنتخابية، للعائلة المدعية وللحزب الممثل لها، أكثر من كونه بتاً في مسألة قضائية ، ومعضلة قانونية ، توارثها البلد طوال ثلاثة عقود ونصف العقد، وحاول أكثر من مرة أن يتفاداها، وان يتجنب النقاش الفعلي حول جوهرها.
ليس حبيب الشرتوني ولا نبيل العلم قديسين. هما نفذا مجزرة، وليس عملية إغتيال . وليس بشير الجميل أمير حرب ، خالفه الحظ ولم يستطع أن ينتقل من المتراس الى الحكم، كما فعل سواه من الحكام الحاليين، خريجي متاريس الحرب الاهلية. كان تنقله بين الموقعين خاطفاً ، وكذلك كانت مسيرته العسكرية والسياسية الوجيزة بالقياس الى إترابه وأبناء جيله الذين ما زالوا على قيد الحياة. ولعل هذا ما ساهم في بناء اسطورته الشخصية، عند الاجيال الجديدة التي يشعر بعضها بقدر من الفراغ أو ربما الخداع.
لكن الفكرة الأكثر  رواجا هي أن البيئة التي خرج منها بشير ما زالت تبحث عن بطل لا تجده في أي من ورثته أو رفاقه.  وهي فكرة صحيحة الى حد بعيد، إذا ما وضعت في الإطار الوطني العام، حيث تتوافر  للبيئات الطائفية الاخرى، كلها تقريباً ، الشخصيات التي تتمتع بالبطولة والشرعية المكتسبة من زمن الحرب الاهلية، وتصدح بخطابات طائفية لا تختلف في جوهرها عن خطاب "الشعب المسيحي" الذي كان بشير يعتمده مذهباً.
مهلاً. لكن قضية الاغتيال  لم تكن ، فقط، ذورة لصراع محلي  تقليدي بين عائلتين لبنانيتين، او بين بكفيا وضهور الشوير  أو بين حزب الكتائب والحزب السوري القومي، أو حتى بين يمين ويسار لبنانيين، بلغ الصراع بينهما أشده في الثمانينات من القرن الماضي. ثمة معطى إسرائيلي، يكاد يغيب من النقاش، ويسيء إليه، ويحرم جانبيه معاً من فرصة مغادرة الماضي الذي لا يمضي.
 في مناسبة الحكم بالاعدام ، هناك فرصة لتقديم هذا المعطى على ما سواه من معطيات. التعامل مع إسرائيل محرمٌ ومحظورٌ بكل المقاييس. لعلها كانت الخطيئة الوحيدة لبشير التي لا يمكن غفرانها.. الخطر الاسرائيلي على لبنان تراجع من كونه خطراً وجودياً ، تكوينياً كما كان يقال في القرن الماضي، الى خطر حدودي، يمكن ان يهدد وجود طائفة لبنانية وحيدة، إذا ما إستمر مسار التضحية السورية والايرانية بها.
في ظل الاعدام لا يجوز أن ينعدم الحديث ، الجدي والهادىء والواقعي، حول هذا الخطر، بحيث لا يكون ورقة سورية او ايرانية، او حتى فلسطينية، بل مجرد جزء من تكوين ثقافة سياسية لبنانية ، تطمح الى بناء إجماع وطني ما، ولا تزعم ان مثل هذا الاجماع متاح في الظرف الراهن، حول الموقف من إسرائيل أو من سواها.
في ضوء الإعدام، ثمة مجال لتفكيك الكثير من الخرافات والاساطير اللبنانية، التي قد تكون أبسطها  وأقلها تعقيداً اليوم قضية إغتيال بشير ، التي مضى الزمن عليها وعلى جميع المعنيين بها.