توقف مرجع سياسي امام سيل النظريات التي تعددت حول ما هو متوقع من العمليات العسكرية للقضاء على آخر البقع الإرهابية على الحدود الشمالية الشرقية، فاسترعاه ذلك العدد الكبير من الخبراء، وبعضهم سياسي وحزبي، الذين يتحدثون جازمين بالنتائج المرتقبة ويوزعون الأحكام والأوصاف التي لا تتناسب وحجم العدو المستهدف ولا القدرات العسكرية الموضوعة لتنفيذ العملية. ولذلك فهو ينصح بكثير ممّا يجب فعله. فماذا قال؟
 

لا يتنكّر هذا المرجع السياسي الذي يمتلك خبرات عسكرية جمعها في حياته العملية لحجم الضغوط والخلفيات السياسية التي تسيطر على عقول بعض المحللين السياسيين في لبنان، وامتدت الى عقول بعض الخبراء العسكريين الذين جنّدوا خبراتهم لتكون في تصرف هذه القوة السياسية في الداخل او تلك التي تخوض المواجهة الإقليمية والدولية الكبرى على الساحة السورية، وامتدت تردداتها لتطاول لبنان وغيره من دول الجوار السوري وصولاً الى أولئك الذين جَنّدتهم القنوات الفضائية المنخرطة في الحرب السورية.

وقال المرجع انه من الجيد ان يكون هناك من يقدم القراءات العسكرية الإستراتيجية للحروب الدائرة في المنطقة منذ ان لفحَ «الربيع العربي» معظم الدول والكيانات العربية العام 2008.

فقد نجح بعض الحركات الشعبية في تغيير كثير من الأنظمة العسكرية والإستبدادية التي جَنّدت احزاباً شمولية سيطرت على كل نواحي الحياة الإقتصادية والإعلامية والتربوية والإجتماعية، وحتى الأمنية والعسكرية، في خدمة الحزب الواحد الذي كرّس القيادة لشخص أو لعائلة وليس من السهل تفكيكها او المس بهيبتها وسلطتها، الى أن ظهر العكس في عدد منها، فجاءت التجربة الأولى في تونس ثم في مصر وليبيا بعد الحرب الكونية التي غيّرت مجرى الحياة السياسية في العراق وافغانستان.

ويضيف المرجع نفسه انّ بعض التجارب العربية الفاشلة التي لم ترسُ على نظام قوي وثابت بديل من آخر إنهار، فاستولدت مسلسلاً من الإنقلابات الدستورية والعسكرية أبقت شعوب هذه الدول تحت رحمة متغيرات سياسية تحكمت بها الطائفية والمذهبية والقبائلية التي كانت الأنظمة البائدة قد حاصرتها أو همّشتها، فأيقظها الغول المذهبي والنزاع الديني الممتد على مساحة العالم الإسلامي.

وإذ يعيد المرجع النظر في كل هذه الوقائع عند ملامسته التطورات الأخيرة في لبنان، يؤكد انّ كل هذه المظاهر التي عاشها العالم العربي سبق للبنان ان عاش شيئاً منها ولم تعد لها اي انعكاسات جسيمة على الحياة السياسية فيه، على رغم محاولات البعض التي بقيت من دون ما اشتهاه. فلقد تجاوز اللبنانيون مسلسل الأزمات الطائفية والمذهبية في عملية تقاسم للسلطة يحميها دستور وقانون جديد أنتجه «اتفاق الطائف» ولا يزال الجميع يحترمه ولو بالحد الأدنى منعاً لأي خلل كبير يمكن ان يعيد البلاد الى ما كانت عليه من انقسامات لا يريد أحد من اللبنانيين ان يشهد مثيلاً لها ايّاً كان الثمن.

وعليه، وإسقاطاً لهذه النظرية على الواقع اللبناني، فقد توقف المرجع امام السيناريوهات المتداولة في الأيام الأخيرة حول طريقة معالجة واستئصال آخر البقع الإرهابية في خاصرة لبنان الشمالية ـ الشرقية حيث ما زالت تتمركز وحدات إرهابية من «داعش» في منطقة تتداخل فيها الحدود والأراضي السورية واللبنانية.

ورأى أنها تشكّل امتداداً طبيعياً لسير العمليات العسكرية على الأراضي السورية والسباق الى السيطرة على مناطق استراتيجية على مساحة سوريا، بما فيها من حروب حدودية في مرحلة افتقد فيها النظام حدوده ومعابره البرية مع كل جيرانه ما عدا واجهته اللبنانية.

وعلى هذه الخلفية، برزت الى الواجهة المهمة التي يمكن الجيش اللبناني ان يقوم بها في المواجهة المفتوحة مع الإرهاب في جرود لبنان الشرقية في اعتباره رأس الحربة، ومعه مختلف الأجهزة الأمنية اللبنانية الشرعية الواقعة على تماس مع هذه المجموعات.

فبدأ مسلسل النصائح ليَزجّ بالمؤسسة العسكرية الأم في أتون الحرب السورية، فيما هي التزمت الحياد طوال السنوات الست السابقة مكتفية بأنها واحد من جيوش «الحلف الدولي على الإرهاب» بمواصفات وامتيازات لبنانية خاصة لا تشبه أي كيان آخر من دوله بعدما تورّطت جيوشها في الحرب السورية في مرحلة من المراحل.

وكل ذلك يجري في توقيت خبيث جداً بعدما نجح لبنان ومعه الغطاء الدولي الذي حَماه في البقاء بعيداً من النيران المشتعلة في عاصمة سوريا ومحافظاتها كافة.

والملاحظ انّ هذه السيناريوهات قد بدأت تسلك طريقها الى النقاش في مرحلة رافقت العملية التي نفّذها «حزب الله» ضد مسلحي «جبهة النصرة» في تلال فليطا السورية امتداداً الى بعض تلال عرسال اللبنانية من ضمن حملته الكبرى التي يخوضها في سوريا من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب وباديتها الشرقية حتى الحدود السورية ـ العراقية.

وراحت تقدّم مقاربات لا تنطبق وواقع الحال السياسية والإستراتيجية التي على لبنان مراعاتها وتجنّب عدداً منها منعاً للوقوع في شراكها، نظراً لعدم قدرته على تحمّل تبعاتها.

ومن هنا جاءت الدعوات الى الجيش اللبناني للقيام بالعمليات العسكرية الى جانب مسلحي «حزب الله» والجيش السوري في مرحلة يتجنّب فيها ان يسجّل عليه تورّطه في الأزمة السورية الى جانب أي من اطرافها، بعد حملة منَظّمة تدعو الحكومة اللبنانية الى الحوار مع النظام السوري تحت شعار عودة النازحين، وكأنّ الحرب السورية قد وضعت أوزارها وانّ الحكم فيها يرغب بإعادة نازحيه ومهجّريه اليها وهناك من يمنعه من ذلك.

وينصح المرجع السياسي أن يُؤخَذ في الاعتبار الإجماع اللبناني على تكليف الجيش العملية العسكرية ضد المجموعات الإرهابية بالخطط التي يراها مناسبة وتتلاءم وقدراته الكبيرة، وفي التوقيت والإستراتيجية الفضلى التي يراها. فلديه ما ليس لدى اصحاب النظريات الأخرى من معطيات تتجاوز حدود معرفتهم بقدرات العدو وحجم استعداداته على كل المستويات العسكرية والأمنية والسياسية، بما فيها من تداخل إقليمي ودولي يتحكّم بسَير الأمور على الأراضي السورية والمنطقة المستهدفة خصوصاً.

ولذلك كله، يختم المرجع ناصحاً أصحاب كل هذه النظريات قائلاً: «طالما انكم أعطيتم الجيش ثقتكم الجامعة من خلال هذا التكليف، اتركوا له حرية القرار والحركة معاً، ولتتوقّف كل المهاترات ولو كان بعضها ينطلق من حسن النية وبعضها الآخر من الصنف المقيت».