منذ أن تمّت تسوية عون - الحريري، نمت وجهة نظر يتقاطع عليها حلفاء «حزب الله» وخصومه معاً، ومفادها أنّ «الحزب» هو المنتصر اليوم، وأنه يدير الدولة التي ركَّب أركانها بإتقان، فحدّد مَن يكون فيها رئيساً للجمهورية ومَن يكون رئيساً للحكومة، ووفق الشروط التي يريدها.
 

فلا أحد يقطع اليوم شعرة في لبنان، إلّا بموافقة «الحزب» أو بأمر منه!في داخل 14 آذار يقول كثيرون: «بعض رفاقنا تنازل لـ«الحزب» عن كل شيء. ولو أراد هؤﻻء الرفاق أن يصلوا إلى هذا الدرك، لكان اﻷحرى بهم أن يختصروا الوقت ويوفّروا التضحيات الجسيمة التي دفعناها منذ 2005 ويعقدوا الصفقة معه باكراً. فعلى اﻷقل، كنا تجنّبنا ما سقط من شهداء من أجل «ثورة اﻷرز» ووفّرنا على جماهير 14 آذار ما أصيبوا به من خيبات وإحباطات».

يضيف أصحاب هذا الرأي: «فرض «حزب الله» أجندته ومشروعه وخياراته، وانصاع له الـ14 آذاريون بعدما تعبوا من المواجهة ووصلوا إلى اقتناع بعدم قدرتهم على تحقيق اﻻنتصار. فعقدوا معه الصفقة في 2016 تحت عنوان الواقعية السياسية، متناسين أنّ الذين انتفضت عليهم «ثورة اﻷرز» في 2005 كانوا أيضاً يرفعون هذا العنوان منذ مطلع التسعينات، عندما عقدوا الصفقة مع النفوذ السوري في لبنان».

في المعادلة القديمة: سوريا كانت تمسك بأمور اﻻستراتيجيا (السياسة، العسكر، اﻷمن) واﻵخرون ينصرفون إلى المشاريع والصفقات وتوزيع المناصب والمكاسب… والوجاهة! واليوم، المعادلة تقوم على إمساك «حزب الله» بالأمور اﻻستراتيجية أيضاً، فيما للآخرين أن يسرحوا ويمرحوا ضمن ضوابط التفاصيل والمكاسب الصغيرة.

في رأي هؤﻻء، أنّ «حزب الله» نجح في إيصال الجميع إلى خيارات اضطرارية. فالرئيس سعد الحريري تبنّى ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة، ثم العماد ميشال عون، وهو يمارس دوراً في رئاسة الحكومة لا يمسّ إطلاقاً بمصالح «حزب الله».

وفي عبارة أكثر وضوحاً، هناك مَن يعتقد أنّ الملفات اﻷساسية التي لطالما كانت 14 آذار تعتبرها حيويّة لتصويب وضعية «الحزب»، كالسلاح والتورّط في سوريا، طُويت إلى مواعيد غير محدّدة.

ويرى هؤﻻء أنّ التطورات في جرود عرسال جاءت لتقدّم إثباتاً لنظرتهم. فـ»الحزب» يتصرف هناك مرتاحاً، بالتنسيق الواضح والتحالف مع الرئيس بشار اﻷسد. وهو اتّخذ القرارات التي تناسبه وتناسب حليفه، سواءٌ في مسار القتال أو في مسار التفاوض. وربما يدعم «الحزب» حليفَه اﻷسد لخلقِ تماسٍ اتّصالي مع لبنان، تحت عنوان التنسيق في ملفات ساخنة تبدأ باﻹرهاب والنازحين ولا تنتهي بالكهرباء والنفط.

ويستند هؤﻻء إلى الكلام الذي أدلى به الحريري نفسه، عبرعدد من وسائل اﻹعلام العربية والعالمية، وخلاصته أنّ حالة «حزب الله» هي حالة إقليمية. ويعني ذلك أنّ استمرارها وازدهارها أو سقوطها وانكسارها رهنٌ بموازين الربح والخسارة إقليمياً.

ويعتقد البعض أنّ استمرار اﻷسد وتفكك خصومه في سوريا هما إشارة إلى انتصاره، وأنّ اﻻعتراف العربي والدولي بدوره ودور «حزب الله» في الحرب على اﻹرهاب سيكرّسان لهما موقعاً قوياً في المعادلات المقبلة.

إلى أيّ حدّ تبدو هذه النظرة في محلّها؟

اللافت أنّ «حزب الله» نفسه، ومعه البيئة المحيطة به، درج في اﻵونة اﻷخيرة على تدعيم هذه النظرة بالقول: «نعم، نحن انتصرنا، ومَن لا تعجبه هذه الحقيقة فليفعل ما يشاء.

ولن نخجل في القول إنّ اﻷمر لنا في السلطة، ﻷنّ الخيار الذي أثبت صوابيّته على المستوى اﻹقليمي هو خيارنا، وهو تجلّى بانتصار إيران وثبات موقع الرئيس بشّار اﻷسد في سوريا في مقابل انهزام المحور المقابل».

ولا يمكن التغاضي عن الحقيقة اﻵتية: إنّ القوى الدولية، ومنها واشنطن، تتعاطى بكثير من الحذر مع حالة اﻷسد في سوريا. فهي لا تمارس ضغطاً ﻹسقاط النظام.

كما أنّ اﻷسد يضطّلع بدور مقبول هناك لضرب ما يسمّى «الإرهاب التكفيري». وعلى رغم الموقف اﻷميركي الواضح، الرافض تمدّد النفوذ اﻹيراني في المنطقة، واعتبار «حزب الله» منظمة إرهابية تستدعي المعاقبة، فإنّ ما يقوم به «الحزب» والأسد في جرود بعلبك يحظى بالموافقة.

لكن ما يرفضه اﻷميركيون هو أن يحاول «الحزب» استثمار هذه التغطية الدولية لكي يتيح لإيران وضع يدها على الجيش والسلطة في لبنان. فالدور الميداني الموضعي هو الحدّ اﻷقصى المسموح به. وخارج ذلك، حرب واشنطن على «الحزب» مستمرة.

والدليل هو عدم التراجع عن مشروع العقوبات المنتظر. كما أنّ حربها على التمدّد الإيراني مستمرة في العراق وسوريا ولبنان. وفي اﻷيام اﻷخيرة، كانت الضربات اﻷميركية لحلفاء إيران موجعة عند الحدود العراقية مع سوريا. فجسر بغداد - دمشق ممنوع، وكذلك جسر دمشق - بيروت.

يرعى اﻷميركيون استقرارَ لبنان، وهم يشجّعون التسويات السياسية الجارية حالياً بصفتها تسويات انتقالية، ويتطلّعون إلى اتفاق اللبنانيين على صيغة تكرّس استقراراً سياسياً على المستوى اﻷبعد. ويقول العالمون إنّ واشنطن تضع لبنان في واجهة أولويّاتها الشرق أوسطية، وهي لن تتخلّى عنه ﻷحد، وخصوصاً ﻹيران.

ولذلك، هي تتولّى مباشرة مساعدة اللبنانيين على إدارة الملفات الساخنة، ولا سيما منها اﻹرهاب والنازحين والوضع المالي والاقتصادي. ويؤكد هؤﻻء أنّ لبنان سيحظى بدعم أميركي أكبر في المرحلة المقبلة، ويتوقعون له ازدهاراً غير مسبوق، بعد انتهاء اﻷزمات اﻹقليمية.

وما يقوم به اﻹيرانيون، و«حزب الله»، هو محاولة التسلّل تحت المظلّة الدولية للإفادة من الدعم اﻷميركي. وهذه السياسة اعتمدها نظام اﻷسد على مدى عشرات السنين في لبنان، حيث كان يأخذ على عاتقه تنفيذ التسويات المغطاة دولياً.

ويطمح اﻹيرانيون و«الحزب» إلى استعادة هذا الدور، من بوابة ضرب اﻹرهاب. لكنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب متشدّدة في هذا المجال، والتسوية معها ليست سهلة، على رغم محاولات الوسطاء الذين يريد «الحزب» تثمير أدوارهم، وآخرهم الحريري في جولته اﻷميركية.