داخل قصّة المعركة المرتقبة ضد تنظيم «داعش» في جردَي القاع ورأس بعلبك، توجد قصّة مستقلة بذاتها، اسمُها «موفق أبو السوس» المعتبَر حالياً أميرَ «داعش» في البقعة التي يحتلّها التنظيم من جرود لبنان، والتي رغبَ مراراً بإطلاق تسمية الإمارة عليها.
 

إسمُ «موفق أبو السوس» له داخلَ ذاكرة تجربة المعارضة السوريّة بشقَّيها «السلمي» و«المسلح»، وأيضاً «المعتدل» و«التكفيري الإرهابي»، موقعاً خاصاً، نظراً إلى رمزيته داخل مراحلها التي تشرح قصة هجرة «الحراك السوري الاحتجاجي» من مرحلة «المدنية السلمية» إلى «العنفية المسلحة»، ومن ثمّ من مرحلة «الفصائل العسكرية المعتدلة» إلى مرحلة سيادة «الفصائل الجهادية التكفيرية» كـ«داعش» و«النصرة».

تكفي مراجعة سريعة لأدبيات منسّقيات الفصائل السورية المسلحة ونقاشات صفحات التواصل الاجتماعي التابعة لها؛ ليلاحظ المراقب أنّ الشهر الأخير من ٢٠١٣، ضجّت خلاله النقاشات داخل المعارضة السورية لتحليل ما سمَّته آنذاك ظاهرة مبايعة «كتائب الفاروق المستقلة» لتنظيم «داعش».

لقد شكّلت مبايعة هذه الكتائب التي كان موفق أبو السوس من بين أركانها الأساسيين، سابقةً خطرةَ الدلالات لكونها اعتُبرت أوّلَ انشقاق يَحدث داخل «الجيش السوري الحر» لمصلحة الالتحاق بـ«داعش».

وثانياً لأنّ الجهة المنشقّة، أي «كتائب الفاروق» وضمنها الكتائب التي أضافت إلى اسمها لاحقاً عبارة «المستقلة»، تُعتبر من أولى التشكيلات التي انضمّت إلى «الجيش السوري الحر» وتميّزَت منذ البداية بشكّها في أنّ دولَ «أصدقاءِ الشعب السوري» تريد تزويد المعارضة السورية سلاحاً كاسراً، وبأنّها شاركت في كلّ معارك «الجيش الحر» تقريباً، ولذلك تمّ النظر اليها في أوساط المعارضة، لفترة من الوقت، بأنّه يجب الاعتماد عليها لإنشاء نواة جيش سوري معارض مقبول دولياً وبديل من جيش النظام.

لا يجادل اثنان من نخَب المعارضة السورية في أنّ «معركة القصَير» كانت بمثابة الضربة الميدانية التي قصَمت ظهر «فيلق كتائب الفاروق». فما بعد معركة القصَير، بحسب هؤلاء، لم يعد كما قبلها على مستوى أنّها نقطة البداية في مسار الانحدار الميداني لأداء «الجيش السوري الحر» وفصائل المعارضة المسلحة غير الإسلامية.

فتكفي الإشارة إلى أنّ من التداعيات الاستراتيجية لسقوط القصَير، حصول حصار أحياء حمص القديمة وإخراج «كتائب الفاروق» منها. وكان على رأس الخارجين منها نتيجة صفقة حفظت بعض ماء وجههم، موفق أبو السوس الذي قصَد إثرَ ذلك القلمون الغربي، ليعلنَ بعد فترة انتماءَه إلى «داعش».

خلال معركتَي إخراجه من القصَير ومن حمص، كان «أبو السوس» واحداً من قادة فصائل «الجيش الحر» الذين شعروا بأنّ قيادتهم المتمثّلة بـ«المجلس العسكري الأعلى»، ترَكتهم لمصيرهم، وبدل دعمِهم، قرّرت فتح جبهاتٍ في مناطق أقلّ أهمّية، فقط لكونها مطلوبة من دول إقليمية.

وحدث في الوقت نفسه الذي كانت فيه كتائب الفاروق، تعاني في حمص من قلّة إيصال السلاح والمال إليها، أنْ هاجمت «داعش» مخازنَ ذخيرة لـ«الجيش السوري الحر» على الحدود السورية مع تركيا وسيطرَت عليها، ما ترَك انطباعاً بأنّ المجلس العسكري الأعلى لـ»الجيش الحر»، لا يتصرّف بمسوؤلية وليس لديه خطة لتوزيع السلاح على فصائل المعارضة وفق أولويات الحاجة إليها في الساحات الأهمّ والساخنة.

في مرحلةِ انتقاله إلى القلمون الغربي، بعد إحباطه في حمص وقبلها في مدينة القصَير التي هي مسقط رأسه، حدثت جملة هجراتٍ لمجموعات من «الجيش الحر» إلى «داعش».

وكلّها جاءت هذه المرّة من فصائل خرَجت من حمص والقصَير وتمركزَت في القلمون الغربي على الحدود مع لبنان. فمِن الشيخ عبد السلام الجربا الملقّب «عرعور القصَير» إلى قائد «لواء القصَير» المقدّم «أبو عرب» الزين إلى «كتائب الفاروق المستقلة» بقيادة أبو السوس، ومع الأخيرة جماعتان كانتا ائتلفَتا معها في شباط 2014، وهما كتيبة «صقور الفتح» بقيادة «أبو عبدو» غنوم و«لواء القصَير».

ويسجَّل هنا لعماد جمعة قائد «فجر الإسلام» أنّه كان قد سبقَ جميع هؤلاء إلى الالتحاق بـ«داعش». ويلاحظ أنّ جميع هذه الانشقاقات تقريباً كان سببها شعور هذه المجموعات بالتهميش وبأنّ قيادة المعارضة السياسية والعسكرية ظَلمتها وترَكتها وحيدةً في القصَير وحمص.

حتى إنّ بعض المجموعات المهاجرة إلى القلمون أضافت إلى أسمائها عبارة «إسلامية» لكي تلفتَ نظر «داعش» أو «النصرة» إليها، لكي تحصل من إحداهما على التمويل؛ وحتى «أبو السوس» فإنّ الرواية الشائعة عنه تفيد أنّه أعلنَ مبايعته «داعش» قبل أن ينسّق معها، وانتظر وقتاً حتى جاءَه الردّ من الرقة بأنّ البغدادي قبلَ بيعتَه وسيبدأ تمويله.

يمكن القول إنّ «موفق أبو السوس» واكبَ كلّ مراحل «الحراك السوري» الذي نشَأ عام ٢٠١١ حتى الآن. وقصّته داخله تعَبّر عن قصة تحوّلات مراحلها السياسية والعسكرية المختلفة، وذلك منذ كانت «حراكاً سلمياً» حتى أصبحت «حراكاً عسكريا» ثمّ «حراكاً جهادياً تكفيريا». فخلال بداياته، بَرز «أبو السوس» في حمص ناشطاً سلمياً في المعارضة، ثمّ كان من أوائل الداعين إلى تشكيل مجموعات مسلّحة لحماية التظاهرات السلمية، وهنا نشَأت فكرة تشكيل «كتائب الفاروق» التي تحوّلت فيلقاً يُعدّ من الأهمّ في تجربة كلّ فصائل «الجيش السوري الحر».

ثمّ لاحقاً أصبَح قائداً ميدانياً داخل «فيلق الفاروق» في «الجيش الحر»، وما لبثَ أن أعلنَ عام 2012 إنشقاقه عن «فيلق الفاروق» تحت مسمّى «كتائب الفاروق المستقلّة»، وبرَّر ذلك في بيان بثَّه على فيديو في 4/7/2012 أنّ كتائب في «الجيش السوري الحر» تسرق جهده وتنسب إلى نفسِها العمليات التي ينفّذها. ثمّ جاءت هزيمة القصير وتداعياتها الاستراتيجية المتمثّلة باستعادة النظام لحمص، لتبدأ رحلة أبو السوس في اتّجاه الالتحاق بـ«داعش».

هناك رأيان متداولان داخل بيئة المعارضة، يفسّران خيارَ «ابو السوس» هذا؛ أوّلهما يرى فيه ردّة فِعل منه، نتيجة إحباطِه من قيادة المعارضة المعتدلة وفسادها؛ والثاني لا ينكِر أنّ «أبو السوس» مِثل كثيرين من قادة «الجيش السوري الحر»، واجَه إحباطاً مريراً من قيادة المعارضة وفسادها، ولكنّه في الأساس كان متَديناً وميّالاً إلى الفكر الجهادي السَلفي، وعليه، كان طبيعياً من منظار عقائدي أن يتّجه إلى «داعش» بعدما قويَ عودُ الأخيرة.

واستجدّ لاحقاً رأيٌ ثالث يصِفه بأنّه انتهازي ويؤكّد أنّ تنقّلاته من حالة إلى حالة داخل مسار «الثورة السورية» كان يتمّ على أساس تأمين مصالحه والحصول على المال. ويورد أصحاب هذا الرأي دليلاً على ذلك مفادُه أنّ أبو السوس إثرَ لجوئه إلى القلمون بدأ يتاجر بالممنوعات والتهريب تحت مبرّر انقطاع التموين عنه.

وإذا كان «أبو مالك» التلّي (أمير «جبهة النصرة») قد جَمع ثروة 40 مليون دولار من خلال استثماره مركزه أميراً لـ«النصرة» في جرود عرسال؛ فإنّ «أبو السوس» جَمع مبلغاً طائلاً أيضاً من تجارة الممنوعات.

ويلاحظ هؤلاء أنّ علاقة التلّي أمير «النصرة» في جرود عرسال قبل ترحيله، بـ«أبو السوس» كقائد للجرود الغربية كانت جيّدة، رغم ما حصَل مِن نزاع دامَ بين الأوّل والأمير العام للقلمون الغربي في «داعش» أبو بلقيس البغدادي المصنّف أنّه الأقرب لأبو بكر البغدادي ويَشغل مرتبة «الأمير العام» على كلّ منطقة القلمون الغربي وضمنها الجرد الغربي، والذي يُشاع أنّه كان المكلّف الحصري من البغدادي بملفّ الجنود اللبنانيين الأسرى.

الآن يَشغل «أبو السوس» منصبَ القائد العام لـ«داعش» في الجرود الغربية التي يتوقّع أن تكون ميدانَ حربٍ وشيكة مع الجيش اللبناني.

ومسؤوليتُه ضمن هذه المواجهة ستكون، بالإضافة إلى قيادته المعركة، القيادةَ المباشرة لقاطع وادي ميري. فيما قاطع الزمراني داخل المساحة التي تحتلّها «داعش» سيقوده الأمير الشرعي «أبو براء» الجريجيري؛ أمّا قاطع مرطبيا فيقوده المكنى «القصيراوي» وهو خليفة «الأنصاري» الذي قتِل أخيراً.

خلاصة القول إنّ «أبو السوس» داخل قصّة المعارضة السورية المدنية السِلمية ثمّ المسلحة ثمّ الجهادية والإرهابية، يُعبّر عن انسداد أفقِ تجربةٍ كاملة ينتمي إليها، حيث مكانه الراهن كإرهابي في بقعة محاصَرة تقع خارج نطاق القضية التي بدأ من أجلها ناشطاً سلمياً، يَشي بأنّ نهايته بدأت كما كلّ قضية تجربة المعارضة السورية التي تواجه تحدّي طغيان الخيار العقائدي التكفيري الانتحاري على سمتها العامة.