ظهر البلّاصون الجُدد في بعلبك بعد ستمئة عام تقريباً على غيابهم عن المدينة.
 

عام 797هـ - 1394م صدر مرسوم شريف ظاهري، لرفع المظالم عن بعلبك، ولردع البلّاصين الذين يزرعون الرّعب في انحاء المدينة، ويأخذون الأتاوات (الخُوَّة) من الأهالي، سلباً ونَهْباً. لكن نائب السَّلطنة لم يمنع البلّاصين؛ لأنه كان متورطاً معهم، هو والمحتسب، ورئيس الشُّرطة؛ فصدر بعد عام مرسوم آخر حمله نائب سلطنة جديد، ومعه قوّة من العسكر، وصل بعلبك فأمسكَ بالبلّاصين، والمسؤولين المتآميرن ووسَّطهم، بناء لأوامر السلطان المملوكي الظّاهر برقوق.

(وسَّطه: قدَّه نصفين)، البلّاص: هو الذي يأخذ أموال الناس بالقوّة والاحتيال.

ماذا في بعلبك:

ظهر البلاّصون الجدُد: سرقة سيارات، تكاد تكون متواترة، مع تفنّن في خطط السَّرقة، السّطو على المحال التجاريَّة بالخلع والكسر، وإطلاق النار الذي يسبب إتلاف المحتويات، الاعتداء على المنازل، خطف المارّة، وسلبهم ما يحملون من أموال قلّت أو كثرت. وصولاً إلى القتل، وسفك دماء الأبرار مما يولدّ الثأر والثأر المضاد.

وطالت مأساة القتل: الأطفال، والشباب، والكهول... يقتلون بطريقة عبثيّة وهمجيّة...

هذه الأخبار تحضها الأراجيف تكاد أن تكون أسطورة.

تقفر الشوارع بعد إطلاق النار، استعراضاً لقوّة البلّاصين. وتقفل المحال، وتعطّل المصالح، وقد يعود المواطن، وهو لا يحمل رغيف خبز لأطفاله؛ لأنه لم (يَسْتفتح). وبات الفقر شعار المدينة.

بعلبك تخضع لغزو، فَتَك بالمدينة الجميلة، شكا المواطنون بلواهم إلى رجال الأمن؛ فتبرؤوا من الأعمال؛ إذ لا حول ولا قوّة لهم وعمليات الدّهم تتطلّب أوامر عليا غائبة.

مئات عمليات السّطو والاعتداءات المتنوِّعة. لم يمسك رجال الأمن لصّاً واحداً، ولا أعادوا قطعة مسروقة إلى صاحبها، ولا أمسكوا بقاتل، ولا رفعوا مظلمة عن إنسان، ويحيلون سوء الأمور إلى الأحزاب.

تسأل الأحزاب فيقولون: الدولة هي المسؤولة. وتبيَّن للمواطنين بعد سنوات عجاف أن مأساتهم عند حماة الدِّيار: السلطة، التنظيمات الشيعيّة النّافذة، ومجلسهم الشيعي الأعلى.

لماذا الاتهام؟ لقد اعتمد زعماء الشيعة على قول الإمام جعفر الصادق "ذُلَّ قومٌ ليس لهم سفيه ينتصرون به".

يحمونّهم، ويدَّخرونهم للاانتصار بهم عند الضّرورة. لكنّ السُّفهاء عَدَوْا على الأبرياء يغتالونهم، وغدوا ورقة بيد الزعماء... وبرَّرها موسى الصدر بقوله: " البستان المثمر يحتاج إلى سياج من الشَّوك "، وما درى أن الشوك إذا استفرس يأكل الأشجار المثمرة.

لقد تآمر بعض النَّافذين مع البلاّصين يقتسمون الغنائم.

مثال، السيارات المسروقة: كلما سرقت سيارة يذهب مالكها إلى المخفر ليُخبر عن السّرقة، فيجيبه المسؤول الأمني: "انتظر ساعة ويتّصلون بك، وإن كنت تريد استعادة سيارتك بسرعة، هذه أرقام أصحاب السّوابق، اتّصلْ بهم، وادفع الفدية، وتستعيد سيارتك". ويختمون خدماتهم بضحكات ساخرة.

بدأ الناس يذرفون الدموع من الظّلم، ولا من مجيب، كثيرون هجروا المدينة المنكوبة.

بلّاصون تجاوزوا حدود الدِّين والأعراف، ومسؤولون، من السلطة والأحزاب، تجاهلوا حدود الواجب، وقتلوا الانسانية. هم حماة البلاصين للتآمر على مدينة جميلة، قال عنها أندريه جيجر: "ليس للأكروبول في أثينا، ولا للكوليزوم في إيطاليا، وهما أروع مات رك الانسان القديم على سطح الغبراء، ليس لهما من الرَّوعة، والهياكل بعلبك من الرَّوعة، ولا أستثني أهرامات مصر".

في تشجيع الفتن: عودة إلى عهد الشعبة الثانية، عندما يطلب المواطنون الحماية من تهديد البلاّصين، يرشدهم رجال الأمن إلى الحل: أطلقوا النار عليهم حماية لأنفسكم، ونحن نغضّ الطّرف عنكم. هم يدسّون الفتن بين النّاس. يحرّضون على القتل، والقتل المضاد.

وهناك إشارات إلى أن منطقة بعلبك – الهرمل يجب أن تظلّ غارقة بالفوضى، ليسهل تفجير الحرب الأهليّة من جديد، عندما تأتي الأوامر من أسياد الخارج.

فعندما تخلت السلطات عن واجبها، ثارت بعلبك عام 1926، واحتلوا السرايا الحكومية وأحرقوها بتاريخ 19 أيار، وألْغوا سلطة الدولة، وشكّلوا لجّاناً شعبيّة تحمي المدينة، ونجحوا... ثم أعادوا المشهد نفسه بتاريخ 20 أيار 1958. وأعادوه ثالثة بتاريخ 24 كانون الأول 1975، ثم 1978.

هل المطلوب أن يعيدوا الكرّة من جديد، ومتى؟

أعداد البلاّصين: تعلن الدولة بوقاحتها الخسيسة: أن في منطقة بعلبك – الهرمل أكثر من خمسة وأربعين ألف مطلوب، أي فارّ من وجه العدالة، أي ثلث سكان المنطقة المقيمين، وهؤلاء لا وظائف لهم، ولا أعمال يكسبون منها أقواتهم، فيعتمدون على قطع الطرق والسَّلب والخطف والسرقات والخوّات.

وقد جعلت لهم السلطات مربعات أمنيّة، لا تدخلها السلطة إلا بخطّة أمنيَّة، كاذبة، وملفّقة، عملت خططاً أمنيّة في الأوهام، خططاً منتهكة بإطلاق النار الذي تغرق فيه المدينة يومياً، وكثيرا ما يؤدي إلى سقوط ضحايا ..

هل تستطيع الدولة أن تؤمّن لهذا العدد أماكن في السجون، وتكاليف السَّجن؟ هي تكدِّسهم لتخريب المنطقة.

أين ممثلو المنطقة:

هناك نواب ووزراء يمثلون المنطقة، هم عشرة. كتلة مفلسة من عمل الاصلاح والتنمية، عندما يراجعهم المظلومون يعتذرون بعدم استجابة الدولة لطلباتهم فيجيبهم الناس: ألستم جزءاً من الحكومة؟ وأنتم تمثلون المنطقة. فيعتذرون نحن الآن منشغلون بوضع قانون الانتخاب.

إنّها حكاية إبريق الزيت يكررها الراوي مرات ومرات حتى يمل السَّامع، ويضجر، ويصاب بالجنون.

إن السياسيين اليوم، على امتداد لبنان، يحكون للشعب حكاية الانتخابات وقوانينها المطروحة، هرج ومرج، وجعجعة بلا طحن، يصدرها السياسيون مردّدة في الاعدام الذي ينتج الكذب.

ملّ الناس ولعنوا حكاية الانتخابات وقوانينها، وصار اللبناني يتمنىّ لو يأتي الجندي السوري بخيزرانته، يهزّها ويقول للزعماء: كبيرهم وصغيرهم؛ هذا قانون الانتخاب، ويكسر إبريق الزيت.

كلمة تحكي الوجع: بعلبك تعاني من تسونامي حرمان جذوره شيعيّة، لقد أبعدوها عن الحضارة.

الحل: لا تلوح حلول في الأفق، وهي تحتاج إلى معجزة إنقاذيَّة تقودها دولة مسؤولة بعيداً من اقتراحات الأمن الذاتي، أو الانتفاضة تشبُّهاً بعام 1958.

أو طلب النجدة من الظاهر برقوق ليصدر أمر التوسيط بحق المسؤولين عن تخريب مدينتهم.