تحت عنوان عبدو شاهين.. أص طرنيب، كتب جوزف طوق في "الجمهورية": تذكّرتُ بونبونة مصَصتُها تحت طاولة المطبخ قبل أن تراني أمّي، وتذكّرتً أوّلَ شفطةِ سيجارةٍ ملأت صدري بدخانها على سطح بيت أبو علي، وتذكّرتُ تلك القبلة التي ملأت خواصري باللذّة قبل أن أغوص في "الطَعش"، وتذكّرتُ الكثير من الأمور التي استمتعتُ بها لأوّل مرّة في حياتي بعدما شاهدتُ أداء عبدو شاهين في مسلسل "الهيبة".

أين كان هذا الممثّل طوال السنوات الماضية، ومن هو المسؤول عن إخفاء هذه الموهبة التمثيلية النارية في جوارير الإنتاج، وكيف مرّت المواسم الرمضانية وغير الرمضانية بلا عمشقاته على أكتاف دور صغير يجعل من تردّداته موجات كبيرة.

لا يمرّ مسلسل "الهيبة" مرور الكرام، بل يخلق حالاً جماهيرية و"إنفحاط" غير مسبوق ببطل العمل المطلق "جَبَل" (الممثل السوري تيم حسن) وغريمته في البطولة "عليا" (اللبنانية نادين نجيم)... ولكن مهلاً، هذا ليس كلّ شيء، مكوّنات "الهيبة" ليست مجرّد بطل وبطلة في قصّة حبّ كلاسيكية، وإنما حشد من الأبطال في أدوار ثانوية يجتهدون لاحتلال الصفّ الأوّل بلا منّية من إسم ولقب ودور ومركز ومشوار... أبطال مِثل صخر (أويس مخللاتي) ودب (سامر كحلاوي) ومجدي (ميشال حوراني)، والمتألّق شاهين (عبدو شاهين) الذي لا يكتفي بدور بطولة تمثيلية عادي، وإنما يغوص في دور محوري ترقص غالبية أحداث المسلسل حوله، أو يكون أقلّه محرّكاً لكثير منها.

فهو الذي حوَّل "جبَل" إلى "جَبِل" وكان له اليد الطولى في صناعة هيبة الكاراكتير، كما أنه رسّخ كلمة "إبن عمّي" في الوعي الجماعي، وتمكّن بقوّة أدائه من صَهر لغتَي الممثّلين اللبنانيين والسوريين، فأضاع جغرافيا التمثيل وهويتَه.

أداءُ شاهين في "الهيبة" هو تأكيد على عبقرية الكاتب هوزان عكّو وإبداع المخرج سامر البرقاوي، اللذين عرفا احتياجات شاهين الدرامية، فمنحاه الدور المناسب والمطرَّز على مقاس قدراته، ومن هناك اهتمَّ هو بالكلمات واللكنات والانفعالات التي أفاقت الوحشَ الذي فيه.

يمكن لدور شاهين أن يكون في الشكل ثانوياً، لكنّه في الفعل أساسياً، إذ إنه المسؤول عن تحريك العلاقات بين "جبل" ورؤساء المافيات الآخرين، وبين "جبل" و"صخر"، وبين آل "شيخ الجبل" وآل "السعيد"، وهو قائد الأحداث بين "الهيبة" والضيَع المجاورة وحتى بيروت، وهو خالق المشاكل ومعقِّدُها وواجدُ الحلول ومنفّذُها.

أسهلُ ما كان يمكن أن يحصل في مسلسل "الهيبة" هو أن يفشلَ كاراكتير شاهين وتنهار مسيرة عبدو شاهين معه، لكن يبدو أنّ الموهبة أكبرُ من الامتحان بكثير، والانفعالات أعظم من كلمات الورق وتوجيهات الإخراج، والنظرات تثقب العدسات والصرخات تُمزّق مكبّرات الصوت، فيَدخل شاهين من دون استئذان إلى قلوب المشاهدين، ومن هناك إلى صالون الشرف في مطارٍ كلُّ رحلاته متّجهة إلى النجومية.

شاهين يمثّل بعينيه وخدَّيه، يمثّل بزمزمة شفتيه والتفاتةِ عنقه، شاهين يمثّل بصوته ولكنته وتعابير حبّ القرابة في عينيه... ليس شاهين وحده الذي يمثّل، فحتّى المسدّس في يد شاهين يمثّل.

عرَف عبدو شاهين كيف يقتنص كلَّ نقاط القوّة من نصّ الكاتب هوزان عكّو، وكيف يسرق اللمعة من عدسة البرقاوي من دون أن يسقط مرّة واحدة في نقاط الضعف أو مشاهِد الفرملة... فانسابت على المسلسل هيبة التعملق اللبناني السوري وانصهر الاثنان في عمل فاقد لكلّ الهويات إلّا هويته الفنيّة.

فيكْ تحِبّ "الهيبة" وفيكْ ما تحبّو وتبحش فيه عن ألفْ علّة وعلّة... لكن من المستحيل ألّا نتّفقَ على أنّ هذا المسلسل أحيا لنا ممثلاً لبنانياً مبدِعاً إسمُه عبدو شاهين، كان مدفوناً في مقابر المحسوبيات، وسَلّط الضوء على أبعاد قدراته التمثيلية التي كانت تُعرّك بين أدوار السيليكون.

ومتى تجلسون إلى طاولة الحسابات الدرامية في المواسم المقبلة، وبعد أن توزّعوا الأوراق وتبدأوا اللعب، لا تنسوا أنّ من يمتلك أص الطرنيب يمتلك الأفضلية... وهلّق مين بدّو يخلط؟