ما كان بعض تلامذتي يحبون حديثي عن الإصلاح الديني، وليس لأنهم ضد الإصلاح، بل هم يحسبون أنّ المصطلح خاصٌّ بالتجربة الدينية البروتستانتية. وهم يؤْثرون أن يجري الحديث عن الاجتهاد أو التجديد أو النهوض. وعلى أي حال، فإنّ حديث الإصلاح صار حديثاً مكروراً ومُعاداً. وما أقوله هنا قاله محمد إقبال في عشرينيات القرن الماضي في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام». لكن بعد «إقبال» ساد لدى المسلمين الهنود والباكستانيين التفكير المحافظ والأُصولي. وقد برز اسمان وقعا في أصل المحافظة، بل الأُصولية، هما أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. والندوي عالمٌ جليل، أما المودودي فهو صحفي في الأصل، ثم أدى به نزوعه القيادي إلى إنشاء حزب «الجماعة الإسلامية». وهو صاحب فكرة «الحاكمية» التي أراد بها في الأصل المقارنة بين النهج (الإلهي) والآخر الغربي في الحكم والتوجيه. وقد بلغ من إعجاب الندوي بتفكير المودودي أن أقبل على ترجمة كتبه ورسائله إلى العربية التي كان الندوي يحسنها ولا يتقنها المودودي. وعن طريق الترجمة، عرف سيد قطب كتب المودودي والندوي، بل إنّ الندوي طلب منه أن يقدم لأحد كتبه!
أقبل الإحيائيون المسلمون من حسن البنّا وإلى عودة والغزالي وقطب والقرضاوي على اشتراع نظام إسلامي كامل في وجه الأنظمة الغربية. وكانت المرحلة السابقة على هذه الشخصيات قد شهدت من جانب السلفيين والإصلاحيين رفضاً للتقليد الجامد، في حين ركّز إحيائيو ما بعد الحرب الأولى على رفض التغريب، والغزو التبشيري والثقافي. وهكذا اجتمع رفضان: رفض القديم الموروث، ورفض الجديد الغريب.
وجاءت ستينيات القرن الماضي بما لم يكن في الحسبان؛ فقد كانت الحرب الباردة في أوجها. وعمد كل طرفٍ إلى استخدام كل الأسلحة الممكنة، فوجد التياران الحروفي، وتيار الإسلام السياسي مَنْ يستخدمهما ضد الشيوعية. في حين ما عاد الإصلاح الديني مطلوباً. لقد صار المطلوب التشدد بحجة مقاومة الإلحاد. وأمكن للأميركيين أخذ الشبان المتشددين إلى أفغانستان للقتال ضد السوفييت الغُزاة، وتركوهم بعد ذلك لينساحوا في العالم ناشرين العنف تارةً باسم مكافحة التغريب والجاهلية الجهلاء، وتارة أخرى باسم مكافحة الحكومات التي تبتعد «النهج الإلهي»! وبقية القصة معروفة: لقد انفجر الدين، وبدأت المجتمعات تنفجر، وكذلك الدول، فدخل علينا الإقليميون الإيرانيون، ودخل علينا الدوليون من كل حدب وصوب، ساعة يستخدمون أصوليينا، وساعة يستخدمون أصولييهم. وها هم أخيراً يستخدمون جيوشهم وطيرانهم من دون وازع ولا رادع.
أين ينفع الإصلاح الديني؟ وكيف؟ ينفع الإصلاح في أمرين: استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية العربية. وكلا الأمرين له علاقة وثيقة بالدين، وإن لم يكن العامل الوحيد أو الرئيس. كل هذه الأهواء الجامحة المستسهلة للعنف والقتل، علّتها إرادة الاستيلاء على الدول باسم الدين، وبحجة تطبيق الشريعة! والشريعة مطبقة وليست بحاجة لتطبيق. لكن إدخال الدين في الصراع على السلطة خلق نوبات من الجنون، وأخرج السكينة من الدين، ولن تعود السكينة إليه وإلى المجتمع إلا بخروج الدين من بطن الدول، فالدول لإدارة الشأن العام وليست لتطبيق الدين أو الشريعة.
والركن الأول للإصلاح التمييز بين الدين والسياسة، فلكل مجاله أو وظيفته. وبينهما بالطبع بعض التشابك المقبول، أما في العقود الأخيرة فهناك اشتباك قاس بين الدين والدولة، لأن الإسلاميين يريدون الاستيلاء على السلطة، وكانت بعض الدول تطمح للاستيلاء على الدين، وهذا لا ينفع أيضاً.
ونصل للأمر الآخر: أمر استعادة السكينة في الدين. ولا شك أن الخروج من طموحات السلطة يعيد الهدوء إلى روح الدين، لكن السكينة تُستعادُ بالفعل عندما يقتنع المسلم بأنه لا خوف من العالم، كما أنه ليس من حقه إخافة العالم، فالركن الإصلاحي الأول: المصالحة بين الدين والدولة. والركن الإصلاحي الثاني المصالحة مع الآخر المختلف، والمصالحة مع العالم. وبالعمل على هذين الأمرين تُستعاد السكينة في الدين والمجتمعات.

 

 صحيفة "الاتحاد"