تركزت الدعاية الصهيونية، قبل النكبة وبعدها، على فكرة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وذلك لتبرير الاستيلاء على أرض فلسطين، وأقامة الدولة اليهودية عليها.
 

ولما كانت هذه الدعاية قد دُحضت بتقرير رفعه حاخامان إلى المؤتمر الصهيوني، بشأن إمكانية الهجرة الى فلسطين، وقد جاء فيه أن  “فلسطين عروس جميلة وهي مستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً”، فقد دأبت الصهيونية على ترسيخ أسطورة مفادها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم طوعاً لليهود، وبالتالي فلا حق لهم في المطالبة باسترداد الحقوق.

ومع الأسف الشديد، فإن هذه المقولة راحت تترسخ، ليس فقط في الغرب، وإنما في بلاد العرب، حتى بات كثيرون مقتنعون بصوابيتها، بالرغم من أن الكثير من المؤرخين والكتاب الإسرائيليين اليوم يقرون بأن فلسطين سُرقت من الفلسطينيين.

وفي الواقع، تشير الأبحاث التي تناولت مسألة انتقال الأراضي إلى الصهاينة، إلى أن مساحة الأراضي التي وقعت تحت أيدي اليهود حتى العام 1948، أي من دون قتال، تدور حول مساحة تقدر بنحو مليوني دونم، أي ما يعادل نحو 8.8 في المئة من مساحة فلسطين (27 مليون دونم).

هذه الأراضي، المملوكة لليهود، يمكن تقسيمها على النحو التالي:

أولاً، 650 ألف دونم تتوزع بين مساحة صغيرة كان يتملكها اليهود المقيمين على أرض فلسطين منذ مئات السنين، ومساحات أخرى حصلت عليها الحركة الصهيونية عن طريق الولاة العثمانيين، بطرق شتّى، سواء على من خلال الرشاوى، أو لاحقاً، من خلال جمعية الاتحاد والترقي، التي يشير الكثير من المؤرخين إلى علاقتها الوثيقة بالصهيونية.

وللتأكيد على ذلك، ينطلق الباحثون في تاريخ فلسطين من حقيقة أن سياسات جمعية الاتحاد والترقي جاءت مناقضة لسياسات الملك عبد الحميد الثاني، التي انقلبت عليه، والذي رفض عروضاً مغرية من قبل الحركة الصهيونية في التنازل عن أراضي فلسطين في مقابل منحه خمسة ملايين ليرة إنكليزية ذهباً لجيبه الخاص، وتسديد جميع ديون الدولة العثمانية (33 مليون ليرة ذهباً)، وبناء أسطول لحماية الإمبراطورية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي، وتقديم قروض بخمسة وثلاثين مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة العثمانية، وبناء جامعة عثمانية في القدس.

إلى جانب ذلك، تم اختفاء السجلات العثمانية المتعلقة بعملية تسجيل الأراضي وذلك في فترة تعليق عمليات انتقال الأراضي بين العامين 1918 و1920، وعندما تم فتح الملفات في ظل الانتداب وجد استملاكات يهودية عن طريق انتقالات ملكية غير مشروعة خلال فترة التعليق التي امتدت لمدة 22 شهرًا، يرجع تاريخها إلى ما قبل 1920.

ثانياً،  665 ألف دونم، هي المساحة التي حصلت عليها الوكالة اليهودية من حكومة الانتداب البريطاني، وهي تتوزع بدورها على النحو التالي:

– 300 ألف دونم من الأراضي منحها المندوب السامي مباشرة للوكالة اليهودية لأرض تبلغ مساحتها 300 ألف دونم.

– 165 ألف دونم من الأراضي هي مساحة امتياز الحولة وبيسان (ارض السلطان عبد الحميد)، الذي منحته حكومة الانتداب إلى الوكالة اليهودية.

– 200 ألف دونم من الأراضي بيعت من قبل المندوب السامي البريطاني إلى الوكالة اليهودية بأسعار رمزية.

ثالثاً، 600 ألف دونم من الأراضي باعها اقطاعيون لبنانيون وسوريون إلى اليهود، وذلك لأسباب متعددة، أولها اتفاقية سايكس- بيكو، التي أوجدت حدوداً بين لبنان وسوريا وفلسطين، التي جعلت هؤلاء الاقطاعيين  يفضلون التخلي عن الأراضي التي يملكونها في ما أصبح “دولة” أخرى، طمعاً بأموال باهظة عرضت عليهم، من قبل جهات عدّة، في طليعتها سماسرة الوكالة اليهودية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن الحديث عن بعض صفقات البيع تلك:

– 400 ألف دونم، باعتها عائلة سرسق البيروتية (ميشال سرسق واخوانه)، في سهل مرج عامر. وتلك الأرض كانت تسكنها نحو 2500 أسرة فلسطينية، جرى طردها، لصالح إسكان أسر يهودية هاجرت من أوروبا.

– 165 ألف دونم باعتها عائلة سلام البيروتية من امتياز لاستصلاح الأراضي منحتها إياها السلطنة العثمانية حول بحيرة الحولة، بشرط تمليكه لاحقاً لفلاحين فلسطينيين. وهو ما فعلته أيضاً عائلتا سرسق وبيهم في امتياز آخر في المنطقة ذاتها.

– خمسة آلاف دونم باعتها عائلة تيان لليهود في وادي الحوارث، الذي عاد الصهاينة واستولوا عليه كاملاً.

– أربعة آلاف دونم باعتها عائلة قباني البيروتية لليهود في واي القباني.

– مساحات أخرى متفاوتة باعتها عائلتا صباغ وتويني البيروتيتين في قرى الهريج والدار البيضاء والانشراح…

– مساحات كبيرة من أراضي صفد باعتها عائلات قوتلي والجزائري ومرديني السورية.

– قطعة أرض كبيرة باعتها عائلة يوسف السورية لشركة تطوير أرض فلسطين.

– مساحات واسعة عند الحدود الفلسطينية-اللبنانية باعتها علائلات الأحدث وقدورة وخديج وسرجي ودانا والحاج اللبنانية.

رابعاً، يمثل مجموع ما باعه أهل فلسطين من أراض طوال ثلاثة عقود نحو ما بين 270 و300 ألف دونم فحسب، أي ما يعادل ثُمن ما استحوذ عليه الصهاينة قبل نكبة العام 1948، أو ما يقرب من واحد في المئة من اجمالي مساحة فلسطين، وأقل مما باعته عائلة اقطاعية واحدة. وتعود أسباب بيعهم الأراضي لأسباب عدّة:

– لم يكن الفلسطينيون في السنوات الأولى للاحتلال البريطاني على معرفة بنوايا اليهود، وكانوا يتعاملون معهم كأقلية شأن كافة الاقليات في دول العالم.

– القوانين المجحفة التي وضعها الانتداب، والتي فاقمت من الظروف المعيشية للمواطن الفلسطيني.

– الإغراءات الكبرى التي قدمها اليهود للذين يبيعون الأرض والتي وقع في فخها بعض أصحاب النفوس الضعيفة. سقوط بعض أصحاب النفوس المريضة.

وقد قام أبناء فلسطين خصوصاً في الثلاثينيات من القرن العشرين بجهود كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين للصهاينة.

واذا كان من شهادة تذكر في معرض الحديث “بيع الفلسطينيين لأراضيهم”، فهي للكاتب اليهودي رون ديفيد في كتابه “العرب وإسرائيل للمبتدئين”: “أريد عدداً قليلًا من اليهود الأميركيين البارزين، خصوصاً أولئك الذين أحترمهم، والذين علموني كل شيء، أريدهم أن يقفوا ويقولوا: لنترك الكذب على العالم وعلى أنفسنا، لقد سرقنا فلسطين، لقد سرقناها”.