يتداول ديبلوماسيون عرب وأجانب كثيراً من المعطيات والتقارير الموثقة التي تعزّز الإقتناع لديهم بوجود مجموعة خصوصيات لبنانية تدفعهم الى تقصي المعلومات الدقيقة عمّا يدور في الكواليس السياسية والحزبية، ولا سيما منها تلك المتصلة باستحقاقات وطنية كبرى ومحطات مصيرية عبرتها البلاد وتكتسب في الشكل والمضمون ما يُسمى وفق بعض الدراسات سمة الإحتكام الى الدستور وما تقضي به القوانين المرعيّة الإجراء.
 

والغريب أنّ عدداً من هؤلاء الديبلوماسيين يعرف في قرارة نفسه كثيراً من الحقائق حول حجم التفاهمات السياسية والحزبية والمصالح التي قادت الى جزء ممّا تحقق من خطوات أساسية أنهت الشغور الرئاسي، سواءٌ تلك التي فُرضت بقوة فاقت قدرات كثيرين على تحملها، أو بفعل انجرار البعض للدخول الى جنّة الحكم والسلطة وتقاسم المغانم والنفوذ، وهو ما ترجمته الأزمة التي رافقت تشكيل الحكومة والنزاع على الحقائب وما تعبّر عنه الخلافات حول الإمساك بمفاصل الدولة والمؤسسات منذ أن بدأت موجة التعيينات الأخيرة، فانتصرت قوى على أخرى وفكّكت تفاهمات وتجمعات سياسية وانهارت تحت وطأة النتائج التي ترتبت عليها بفعل عوامل داخلية وإقليمية ودولية فُسِّرَت على غير حقيقتها في مرحلة من الخواء السياسي والديبلوماسي.

ومن هذه المنطلقات، لم يُخفِ أحد الديبلوماسيين العارفين ببواطن الأمور وحقيقة ما يدور في كل بيت او حزب سياسي لبناني، توصّله الى معادلة لم يشهد مثيلاً لها في أيّ بلد آخر غير لبنان، وهو يلخصها بوجهيها على ضفتي صنفين من اللبنانيين على قاعدة وجود منتصر وخاسر.

وفي جلسة خُصصت للبحث في وسائل الدعم الذي يستحقه لبنان بعدما تحوّل مستوعَباً للنازحين واللاجئين السوريين والفلسطينيين، يكشف هذا الديبلوماسي عن قراءة متداوَلة في الكواليس الديبلوماسية تحاكي المرحلة السياسية التي سادت الأشهر الستة الأخيرة التي أعقبت إنهاء الشغور الرئاسي بمقاربة واقعية، وهي تقول بوجهيها:

- لم يُعلن المنتصر الحقيقي من كل ما جرى في لبنان إبان هذه الفترة وفيها وبعدها انتصارَه بعد، رغم أنه يتصرف على هذا الأساس، يملي المواقف ويحدّد المخارج المقبولة وغير المقبولة وما هو مسموح به وما هو غير مسموح.

- لم يعترف الخاسرون بعد، بخسارتهم، إما مكابرة أو اعتقاداً منهم، أنّ سياسة مجاراة الأحداث و»الإنحناء كالقصب أمام العاصفة» هي قارب النجاة لهم الى أن يحين «الخروج من النفق». فسارعوا الى ممارسة سياسة الهروب الى الأمام يستلحقون الإنتصارات ويدّعون النجاحات الوهمية.

وأمام هذه المعادلة المتوازنة ليس من الصعب الإضاءة على كثير ممّا يُثبت دقتها، فهناك دلائل تقود اليها، ومرد ذلك الى قدرة اللبنانيين على تغليف الحقائق بغطاء شفاف وفّرته الأغطية الدستورية والقانونية على خلفية ما بات يُعرف بـ «الديموقراطية التوافقية» التي تمّ التسويق لها بسيل من تفاهمات غامضة ومتناقضة وضعت ما يقول به الدستور وما نصت عليه القوانين على الرف، بعدما أسبغت عليها الصفات التاريخية والمصيرية فإرتضاها اللبنانيون للخروج من مسلسل المآزق على أمل الخروج الى برّ الأمان.

وعليه يكرّر الديبلوماسي نفسه دعواته الدائمة الى قراءة التطورات والوقائع بعيون مجرّدة، رافضاً مواقف وشعارات تُطلق في مناسبة وغير مناسبة لا تحاكي كل هذه الوقائع، لا بل فهي تتناقض معها الى الحدود القصوى.

ولذلك فهو يتوقف عند بعض المواقف التي لا تعترف بما هو قائم كالقول الغامض بأنّ قانوناً جديداً للإنتخابات بات قاب قوسين أو أدنى من الظهور، في وقت ينعى كل المحاولات الجارية لتوليده بعد سنوات تلت تعهّدات نيابية قُطعت في الأعوام 2008 و2009 و2013 و2015 بإقرار قانون انتخاب جديد يوفّر العدالة في التمثيل النيابي وصحته وشفافيته وهو أمر لم يتحقق حتى الآن.

وبناءً على ما تقدّم، يختم الديبلوماسي مطالعته اللبنانية، كاشفاً عدم فهمه لكثير من المعادلات التي تُبنى عليها المحطات المقبلة.

ويرى في القول مثلاً إنّ الحديث عن التمديد للمجلس النيابي هو مجرد تهديد ووعيد بأنه كلام غير واقعي، وتحديداً عندما يُقال إنّ الإنتخابات قائمة وستُجرى وفق قانون انتخاب جديد سيكون متاحاً قبل نهاية الولاية الدستورية للمجلس النيابي بالإستناد الى مواد دستورية محدّدة لا تحاكي ما يعيشه لبنان في هذه المرحلة بالذات ويدور خلاف عميق حول تفسيرها.

فجميع المتعاطين في السياسة والدستور يدركون أنّ الدستور اللبناني الذي لحظ البدائل من الشغور الرئاسي في حال عجز رئيس الجمهورية عن الإستمرار في مهماته أو وفاته، كذلك عند شغور مقعد نيابي بالإستقالة او بالوفاة قبل نهاية ولاية مجلس النواب بستة أشهر، لم يلحظ ما يحاكي ما سيعيشه لبنان بعد اسابيع قليلة من تمديد لا بد منه لتفادي الشغور النيابي.

ولذلك كله يطرح الديبلوماسي مجموعة أسئلة مشروعة ومنها: كيف سيتفق اللبنانيون على تفسير الدستور لإدارة المرحلة المقبلة بوجود إقتناع لديهم أنّ الدستور لم يلحظ أيّ مخرج لها؟ وكيف سيتمّ التوافق في ظل مجموعة من الآراء الدستورية المتناقضة؟ ومن أين سيأتون بالمخارج الدستورية؟ ومَن هي الجهة القادرة على فرضها؟

وعلى رغم صعوبة الأجوبة على هذه الأسئلة، فقد أدّت إشارة رئيس الجمهورية الى المواد الدستورية 25 و74 الى فرض سؤال جدي لدى الديبلوماسيين: مَن هي الجهة التي يرفع اليها الرئيس ملاحظاته؟ وهل سيشاركه أحد هذا الرأي؟ ومتى وكيف؟!