يمكن للنظام «الساريني» الأسدي، نسبة إلى «غاز السارين»، أن يطمئن «جماعته»، بأنّه، تحايل على قرار الأمم المتحدة القاضي بتفكيك ترسانته الكيماوية، وأنّه هزأ من المجتمع الدولي الذي اعتبره قد أنجز ما هو مطلوب منه على هذا الصعيد، ولم يعد يطلب منه أي أمر ملحّ بعد إتلاف الترسانة الكيماوية. 

إلى جانب فظاعة معاودة استخدام الغازات السامة، وهذه المرة من الجو، وبتوثيق بصري حي للجريمة ضد الإنسان السوري، تبرز الفضيحة بكل ما للكلمة من معنى: نظام يستخدم الكيماوي في الغوطة قبل أربع سنوات، وتقرع واشنطن ضده طبول الحرب، ثم تتدخل موسكو وتقترح صفقة، تبعد الضربة الجوية والصاروخية الأمريكية عن النظام، وتفكك الترسانة الكيماوية للنظام، وفي مقابل غض الطرف عمليا عما دون ذلك من همجية براميلية وتهجير منهجي لملايين السوريين. تكون النتيجة أن النظام الذي «قبض ثمن» تفكيك ترسانته الكيماوية، لم يفكك هذه الترسانة كليا. هذا بخلاف النظام الصدامي، الذي سلّم ترسانته الكيماوية بالفعل، ثم خيضت حرب بحجة انه ما زال يخفي شيئا منها، ولم يظهر انه كان يخفي شيئا، فلا هو تسرّب للجماعات التي حاربت الأمريكيين، ولا هو سلاح وضع الأمريكيون يدهم عليه طيلة سنوات احتلالهم المباشر للعراق. 

في سوريا نظام «يفهم العالم»، يفهم العلاقات الدولية المعاصرة اكثر بكثير مما كان يعتقده أخصامه المحليون والإقليميون والدوليون. يفهم انه يمكنك أن تتعاون بسرعة مع المجتمع الدولي لتتلف اكثر مخزونك من الكيماوي وان تبقي على بعضه أو تعوّض ما أتلفته دون مشكلة ما دمت جزءا من شبكة «ممانعة» واسعة تمتد من بيونغ يانغ حتى دمشق مرورا بطهران. ويفهم أنه عندما يقال لك أن تغيير رأسك كنظام لم يعد مطروحا، فهذا ينبغي اختبار دلالته في الميدان. الإدارة الأمريكية الجديدة غضت النظر عن إسقاط النظام، واعتبرت أن الأولوية مكافحة «الإرهاب - داعش». 

النظام أجاب بسرعة مذهلة: أولا، هو يحارب «داعش» بالمعنى الأوسع لكلمة «داعش»، كما يفهمها، أي الأنسجة الأكثرية من المجتمع السوري التي تمردت عليه وانتفضت. وكما انه يوسع «بنك أهدافه» الاستئصالية على هذا النحو، فانه «يقترح» اختبار النظام الدولي، في لحظة مفترقات لا تزال غامضة، فاذا كانت كوريا الشمالية مثلا «تفاجئ» الشطر الجنوبي من شبه القارة، والأمريكيين، في كل موسم، بتجربة اطلاق صاروخ باليستي جديد، فالنظام السوري «الساريني» ليس لديه هذا المستوى الصناعي الحربي، لكن لديه حقل تجريبي آخر: تجريب الغازات السامة على أبناء الشعب السوري. 

في الماضي، وعندما كان الموضوع يتعلق بالاحتلال السوري للبنان ثم العلاقة بين البلدين، وجدت حكومات غربية تعطي النظام الفرصة تلو الفرصة لتحسين صورته أو لفصله عن ايران. فرنسا تحديدا كان لها مثل هذه التجربة مرتين. وفي المرة الأخيرة ذهب نيكولا ساركوزي بعيدا في التطبيع مع هذا النظام، ثم ذهب بعيدا في الاتجاه المعاكس عندما ادرك ولو متأخرا انه «فالج لا تعالج». 

إلى اليوم، ما زالت الحكومات الغربية تجرب بشكل متواصل نفس استراتيجية «تغيير سلوكيات» نظام آل الأسد، والنظام على خبثه الدموي يظل صريحا شفافا لكل من يرغب أن يرى: انه نظام «فالج لا تعالج»، نظام لا يعرف من علاقة بأكثرية الشعب السوري غير علاقة «الاستعمار الداخلي» لهذا الشعب، والتعامل بنفس استئصالي، إبادي، ترحيلي، مع أقسام مختلفة من هذا الشعب، وهو نظام قد يكافح الإرهاب في نقطة ليصدّر الإرهاب في نقاط، ويفكك الكيماوي بشكل سريع وواسع، ليُبقي ما يحتاجه منه ويخزّن من جديد. 

كل «الدول المارقة» كما سمّتها إدارة جورج بوش الابن في منتهى البراءة مقارنة بهكذا نظام. وحتى الإمبريالية الغربية نفسها، رغم كل اتهام شعبي سوري لها بالتواطؤ مع النظام، فان «براغماتيتها» المزمنة تجاهه، والمتلاقية في الفترة الأخيرة مع مناخات «رهاب الإسلام»، ومواويل «تحالف الأقليات»، إنما تعوم على بركة من السذاجة.

النظام «الساريني» يفهم العالم، اكثر بكثير مما يعتقده أخصامه. يفهم انه في العالم الحالي، يمكنه بكل بساطة أن يعود ويستخدم الغازات السامة المحرمة دوليا دون مخاطرة. ما لن يفهمه هذا النظام، ولا كل المبررين له في الغرب، ولا كل المحاربين من أجله في الشرق، هو انه نظام يفعل كل هذا، ويقتل كل هؤلاء الناس، وهو في المقبرة. كل البراميل المتفجرة، كل الغازات السامة، لن تخرجه من المقبرة. هو قادر بطغيانه وألعابه المرعبة على دفع الكثير من الضحايا إلى الموت. لكنه غير قادر على العودة إلى الحياة كنظام استبدادي، وليس بإمكان أحد إحياءه من جديد.